الاثنين، 7 أكتوبر 2013

رحلة محمد الصفار إلى فرنسا سنة 1845

اكتشاف النص وأبعاد السفارة

على إثر المواجهة العسكرية غير المتكافئة التي جمعت بين الجيوش الفرنسية المحكمة التنظيم والمقاتلين المغاربة،  في وادي إسلي سنة 1845،  والتي انتهت بانتصار كاسح وسريع للفرنسيين، قرر السلطان عبد الرحمن بن هشام (1822- 1859)  إيفاد بعثة سفارية مغربية إلى فرنسا لتصفية الأجواء وتنقيتها بين الجانبين. وفي هذا السياق، وقع الاختيار على عبد القادر أشعاش عامل تطوان الشاب والوسيم ليكون سفيرا مخصوصا من سلطان المغرب إلى ملك فرنسا لوي فليب ( 1830-1848 ). وكان الفقيه التطواني محمد الصفار من بين أعضاء الوفد المغربي الذين وقع عليهم الاختيار لتشكيل البعثة المغربية إلى باريز. وبعد رحلة استغرقت أزيد من شهر، عاد أعضاء البعثة إلى المغرب، فشرع محمد الصفار في تحرير نص رحلته، وبعد الفراغ من ذلك قدمها عبد القادر أشعاش إلى السلطان في نسخة فريدة ما لبثت أن توارت عن الأنظار لمدة تجاوزت المائة والعشرين سنة، ولم يتم كشف النقاب عن وجودها إلا في مستهل ستينيات القرن العشرين حين عثر عليها ضمن محفوظات القصر الملكي بمراكش.
ونقترح في هذه الورقة، عرضا مقتضبا للظروف التي أنتج فيها هذا النص الرحلي، وإلى الرحلة التي مر بها النص قبل أن يصبح حاضرا بين أيادي القارىء العربي في الشرق والغرب على حد سواء، لكن مع الحرص قبل هذا وذاك على وضعه في سياقه العام على المستوى المغربي أولا  والعربي الإسلامي ثانيا  والدولي ثالثا وأخيرا.

أولا: اكتشاف النص:

تحتفظ اليوم الخزانة الحسنية التابعة للقصر الملكي بالرباط بنسخة فريدة من مخطوطة رحلة الصفار التي تتكون من 139 صفحة. ويبلغ طول كل صفحة 21.5 سنتمترا وعرضها 17 سنتمترا. وتحتوي كل صفحة على واحد وعشرين سطرا كتبت بخط مغربي سهل القراءة في مجمله. ولا يحمل هذا المخطوط توقيعا أو إشارة لاسم المؤلف، ومع ذلك فإن هناك قرائن شتى ترجح بأن الرحلة من تأليف محمد بن عبد الله الصفار الأندلسي التطواني.
أما موضوع المخطوط، فهو تقرير عن رحلة سفارية قام بها المؤلف الفقيه إلى العاصمة الفرنسية باريز في دجنبر 1845، بعد أن عين كاتبا للسفير المغربي غبد القادر أشعاش الذي بعثه سلطان المغرب عبد الرحمن بن هشام في مهمة دبلوماسية على فرنسا. ويبدو أن الفقيه محمد الصفار قد حرص على تسجيل مشاهداته وملاحظاته أثناء الرحلة، وبعد العودة إلى مسقط رأسه تطوان، كتب تفاصيلها، ربما بإيعاز من عبد القادر اشعاش امتثالا لأمر سلطاني.
وينقسم المخطوط في مجموعه إلى ستة اقسامن استهلها الكاتب بتوطئة وأنهاها بخاتمة. وتتوسطها أربعة فصول اساسية تتناول مواضيع مختلفة جاءت كالآتي:
الفصل الأول: توطئة؛ الفصل الثاني: فصل في سفرنا في البر من مرسيلية لباريز (ليون، طريق الحديد)؛ الفصل الثالث: فصل في ذكر مدينة باريز (التياترو، الكوازيط)؛ الفصل الرابع: فصل في عوائدهم في المأكل؛ الفصل الخامس: فصل في ذكر مكثنا في هذه المدينة (دار كتبهم، دار الفزكـ، دار الإصطنبا، القمرة، مدرسة من مدارسهم)؛ الفصل السادس: خاتمة في بيان مداخيلهم ( مدخول فرانسا ووجوه جبايتها).
وتجمع رحلة الصفار بين خصوصيات أدبيات الرحلة في شكلها المعروف عند العرب المسلمين، وبين عناصر جديدة يمكن اعتبارها أكثر حداثة وتجديدا إلى حد ما. إذ تمكن محمد الصفار بفضل اتساع آفاقه الأدبية واللغوية من إثراء مؤلفه بأشياء أصيلة، كأبيات شعرية ومقتبسات من القرآن والحديث، وأقوال مأثورة وأمثال ونوادر، حتى يبرهن بها على علو كعبه في اللغة والأدب.
وعلى الرغم من القيمة العلمية والأدبية والتاريخية لنص هذه الرحلة، فإن اهتمام الباحثين المغاربة لم يتجاوز مستوى التعريف به ونشر بعض من مقتطفاته في مجلات دورية ثقافية أو على أعمدة  بعض الصحف. ومع ذلك، لابد من الاعتراف بالجهود التي بذلها البحاثة الفقيد محمد الفاسي في هذا السياق، إذ كان من الباحثين المغاربة الأوائل إلى جانب الفقيه محمد المنوني وعبد الوهاب بنمنصور ممن اهتموا بإثارة الانتباه إلى أهمية رحلة الصفار.  لكن درجة الاهتمام هذه من طرف الباحثين المغاربة،  لم ترق إلى مستوى التفكير في نشر النص أو تحقيقه كاملا لجعله رهن إشارة القارىء المغربي والعربي عامة.
وهكذا، شاءت الظروف، أن يظل نص الرحلة خامدا في بعض الصناديق ضمن محتويات الخزانات السلطانية في مراكش لمدة تجاوزت القرن من الزمن، إلى أن علمت باحثة أمريكية شابة في خضم دراساتها الجامعية العليا بوجود هذا النص، فشمرت على ساعديها، واختارت مخطوطة الصفار بشجاعة كبيرة لتتخذ من مادتها موضوعا لأطروحة سجلتها لنيل دكتوراة الدولة في الآداب بجامعة ميشكن.
ويتعلق الأمر هنا بالمؤرخة سوزان ميلار التي رفعت التحدي بكل ما في الكلمة من معنى لإدخال برنامجها العلمي حيز التنفيذ، فاستغلت وجودها بمدينة الرباط في مهمة إدارية تعليمية، وحصلت على نسخة مصورة من نص الرحلة، وهي التي كانت لا تعرف من اللغة العربية إلا نثفا من العامية المغربية. وحتى تواجه الصعوبات الكبيرة التي يتطلبها تحقيق نص صعب من حجم رحلة الصفار، كان عليها أن تقوي معرفتها باللغة العربية، وأن تستأنس بقراءة الخط المغربي، فضلا عن الاطلاع على جوانب شتى وكثيفة من تاريخ المغرب المعاصر، حتى تتسنى لها الإحاطة بالرحلة والنفاذ إلى مضامينها العميقة والتمكن من نقلها إلى اللغة الإنجليزية نقلا أمينا وخاليا من العيوب. هذا علاوة على الإحاطة قدر المستطاع بما كتبه النقاد الأدبيون والأنثربولوجيون في موضوع السفر والرحلة بوجه عام، مع التركيز على خصوصيات الرحلة المغربية حتى تضع رحلة الصفار في إطارها الصحيح.
وبما أن صاحب الرحلة قد جاب الآفاق فعلا وعبر البحر والبر  في اتجاه  في الديار الفرنسية، فإن عدوى السفر ما لبثت أن مست الباحثة الأمريكية سوزان ميلار هي الأخرى، فوجدت نفسها، توخيا للإتقان في العمل، مضطرة إلى شد الرحال إلى باريز، أملا في اقتفاء آثار البعثة السفارية المغربية في الأرشيف الفرنسي، بل ومن أجل التأكد أحيانا من أوصاف الصفار لباريز ومعالمها. وهذا فضلا عن البحث في الأرشيف المغربي في الخزانات العامة والخاصة، وإجراء الاتصالات المباشرة مع أحفاد كاتب الرحلة محمد الصفار في تطوان.
 ويبدو أن سوزان ميلار قد توفقت بفضل الإصرار وقوة العزيمة إلى حد كبير في مشروعها. إذ تقدمت بأطروحتها لنيل الدكتوراه سنة 1976 من جامعة ميشكن. غير أنها احتفظت بنتائج بحثها مرقونة على أحد رفوف مكتبتها مدة قاربت عقدين من الزمن، فظلت الاستفادة من نتائج بحثها محصورة على الباحثين المتخصصين. وكنت قد اطلعت على هذا العمل في عجالة كبيرة، إلى أن كتب لي اللقاء شخصيا بسوزان ميلار سنة 1986 بمناسبة انعقاد ندوة دولية في جامعة أولد دومنيون بنورفولك حول تاريخ العلاقات المغربية الأمريكية. وحين سألتها عن عدم اهتمامها بنشر نتائج بحثها، بدت لي جد متشائمة وقالت لي من يا ترى سيهتم في أمريكا برحلة قام بها فقيه مغربي إلى فرنسا في الفرن التاسع عشر. وقد اعتقدت أن محاولتي المتواضعة  لتقديم جواب إيجابي عن تساؤلها المتشائم سيكون دون جدوى. ومع ذلك، لم أتردد في تشجيعها على ضرورة نشره، على الرغم من جهلي الكبير لمتطلبات سوق الكتاب في العالم الأنكلوسكسوني وتعقيداته. وكانت مفاجأتي سارة جدا، حين أهدتني سوزان ميلار نسخة من كتابها مصحوبا بعبارات إهداء رقيقة  سنة 1992 بعد أن تمكنت من  طبعه ضمن منشورات جامعة كالفورنيا الأمريكية، فأصبح رهن إشارة جمهور عريض من القراء الأنكلوساكسونيين تحت العنوان التالي:
 Disorienting Encounters : travels of a Moroccan Schoolar in France in 1845-1846. The Voyage of Muhammad As-Saffar; Translated and Edited by Susan Gilson Miller; University of California Press, 1992.   

إلى هذا الحين تكون مهمة سوزان ميلار التي تبنت رحلة الصفار ونقلتها إلى القارىء الغربي قد انتهت، بينما تكون  مسؤولية الباحثين المغاربة والعرب قد بدأت، حتى يتسنى تمكين القارىء المغربي خاصة والعربي عامة من الاطلاع على هذه الرحلة التي تعج بالأجوبة عن اسئلة حاسمة تهم مصير المغاربة ومئالهم قي ظرفية اتسمت بالخطورة القصوى ونعني بها مرحلة التكالب الاستعماري على العالم العربي الإسلامي خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
وفي هذا السياق، جاء دخولي أطوار هذه المغامرة، حيث استجبت دون تردد للعرض الذي تقدمت به سوزان ميلار لأساهم في إصدار نسخة عربية لعملها حتى تعم فائدته غير قراء الإنجليزية. واعتقدت في البداية أن تحقيق المشروع سيكون سهل المنال بحم وجود النص العربي الاصلي للرحلة، ويكفي تعريب حوالي الستين صفحة والهوامش المحررة أصلا بالإنجليزية بقلم سوزان ميلار في الدراسة والتحقيق. غير أنني وجدت نفسي أمام مهمة شاقة تستدعي حل مشاكل شتى نشير إلى بعض منها.
لقد حرصت على تعريب الأفكار الواردة في الدراسة تعريبا سليما وأمينا دون المس إطلاقا بمضامينها أو التصرف فيها. غير أن كتاب سوزان ميلار في نسخته الأصلية كان يستهدف بطبيعة الحال جمهورا من القراء غالبيته العظمى من الغربيين. ولذا نجد سوزان ميلار عند ترجمتها لنص الرحلة إلى الإنجليزية تعمل قدر المستطاع على ترجمتها ترجمة حرفية حرصا منها على النقل الأمين لمضامين النص الأصلي ومعانيه. وكلما كانت تعترضها كلمة عربية فصيحة كانت أم عامية دارجة، إلا وحاولت إيجاد مقابل مناسب لها في الإنجليزية، مع تقديم الشروح الوجيزة أحيانا والمستفيضة أحيانا أخرى لتيسير فهمها وهي مهمة لم تكن سهلة على الإطلاق. غير أنها اضطرت أحيانا إلى الوقوف كثيرا عند أشياء ربما بدت للقارىء العربي بأنها بسيطة، لكن القارىء الغربي يحتاج لشرو إضافية لفهمها واستيعابها لأنها غريبة عن ثقافته المادية والدينية.   وعند تعريب التحقيق ومراجعة النص العربي الأصلي للرحلة، ومقارنة بنصها المترجم إلى الإنجليزية،  كان لزاما علي التدخل من جديد وخاصة في الهوامش؛ وذلك إما من أجل حذفبعضها بحكم أن ما تتضمنه من شروح يعتبر بديهيا ومن باب تحصيل الحاصل بالنسبة للقارىء العربي عامة والمغربي خاصة؛ وإما لإضافة هوامش جديدة الغاية منها شرح بعض المفردات التي وإن كانت قد كتبت بالعربية فهي لا تخلو من لبس وغرابة. وحتى أميز بين الهوامش الأصلية ومثيلاتها المضافة، فقد وضعت بين قوسين كلمة معرب كلما أضيف هامش توضيحي جديد.

ثانيا، ظروف السفارة ومغزاها:

في خضم التنافس الاستعماري الشديد القائم منذ مدة بين بريطانيا وفرنسا في شأن المستعمرات في مختلف أرجاء المعمور، وضعت حكومة شارل العاشر بريطانيا أمام الأمر الواقع حين فاجأتها باكتساح عسكري سريع  لأرض الجزائر العربية الإسلامية في شمال إفريقيا خلال سنة 1830. وعلى الرغم من التعهدات التي قدمتها فرنسا إلى بريطانيا بعدم الإقدام على أي خطوة لاحتلال تونس والمغرب، فإن تنفيذ المخططات التوسعية الفرنسية البعيدة المدى في إفريقيا جنوب الصحراء وفي العالم العربي أمر يبدو عسير المنال دون التمكن من احتلال المغرب وتونس في أسرع وقت ممكن. وبغض النظر عن تونس التي كانت تدور في فلك الدولة العثمانية المتهاوية، فإن المغرب قد أوجعته الضربة القاضية التي وجهتها فرنسا إلى جارته الجزائر بشكل يصعب وصفه وعلى عدة مستويات. وقد أدرك سلطان المغرب وجهازه المخزني وعناصر النخبة من علماء وفقهاء ووجهاء، أن فرنسا لن يغمض لها جفن إلا إذا تمكنت من إلحاق أرض المغرب الأقصى بمستعمراتها المنبثة فيما وراء البحار. ومع ذلك، فإن المغرب حكاما ومحكومين، وبفعل الروابط الدينية والعرقية قد وجدوا أنفسهم ملزمين طوعا أو كرها بمساندة المقاومة الجزائرية بقيادة الأمير غبد القادر وبالدخول بالتالي في مواجهة مع الفرنسيين.
وبطبيعة الحال، لا يتسع المجال هنا لعرض كل التفاصيل الخاصة بهذا الجانب، إذ كتب عنها الباحثون المغاربيون والأوربيون الشىء الكثير. وما يهمنا، هو أن فرنسا قد نجحت في استراتيجيتها الهادفة إلى جر المخزن إلى مواجهة عسكرية غير متكافئة تمت فصولها السريعة على مقربة من الحدود المغربية الجزائرية في وادي إسلي سنة 1844. وما يهمنا أيضا هو أن فرنسا كانت تريد انتزاع اعتراف صريح من سلطان المغرب بوجودها في أرض الجزائر، وأن ترغمه على التعاون معها لتثبيث احتلالها وتهدئة القبائل المغربية الموجودة عند الحدود ومنعها من تقديم المؤازرة إلى أي حركة جزائرية مناوئة للوجود الفرنسي في الجزائر.
وفي هذا السياق الضيق، تدخل سفارة عبد القادر أشعاش إلى باريز موضوع الرحلة التي تهمنا في هذا اللقاء، وهي سفارة دعت إليها فرنسا وكلفتها جهودا ومشاق كبيرة للتمكن من إقناع السلطان مولاي عبد الرحمن وجهازه المخزني بالموافقة على إيفادها.  ومع ذلك، يبدو أن عمق الهزيمة العسكرية  وشدة الصدمة كانا قويين بما فيه الكفاية للدفع بالنخبة وبدائرة المخزن القريبة من السلطان وحاشيته إلى التفكير في الأسباب الحقيقية التي كانت وراء الفشل في الوقوف بحزم أمام قوة الجيوش الفرنسية الظافرة. وإذا سلمنا بصحة هذه الفرضية، فإن سفارة عبد القادر أشعاش إلى باريز لن تكون عديمة الجدوى للمغاربة، لأنها أصبحت بهذا المعنى فرصة لا تقدر بثمن لمساءلة الذات المغربية والعربية ومحاورتها بكل ما يتطلبه الأمر من الصراحة والصرامة في محاولة للإجابة عن السؤال البسيط والمعقد في الوقت نفسه، وهو الآتي: لماذا نجح الفرنسيون في التفوق على المغاربة في ساحة المعركة بوادي إسلي سنة 1844؟

وفضلا عن هذا السؤال البديهي، فإن نص رحلة الصفار يستفز القارىء ويدفعه بالضرورة إلى  طرح أسئلة أخرى تبدو مقلقة وتصعب الإجابة عنها، ومنها على سبيل المثال لا الحصر ما يأتي:
لماذا بقي نص الرحلة في طي الكتمان أزيد من قرن من الزمن؟
لماذا لم تطبع الرحلة مباشرة بعد تسليم نسخة منها إلى السلطان؟
لماذا لا توجد إلا نسخة واحدة من الرحلة ولم تستنسخ ولم يحدث تداولها في الأوساط المغربية؟

وإذا عدنا إلى السؤال الأول: والذي يحاول الحكام المغاربة وأعضاء النخبة ومعهم كاتب الرحلة محمد الصفار نفسه البحث من خلاله عن أسباب نجاح الفرنسين  في قهر المقاتلين المجندين من مختلف القبائل المغربية في ساحة المعركة بوادي إسلي سنة 1844 ، فإن نص الرحلة يبدو غنيا بالأجوبة الدقيقة والمقنعة في هذا السياق الهام. وحتى لا نتقل مسامع الحاضرين والقراء  بمقتبسات طويلة من أقوال محمد الصفار بخصوص هذه النقطة الأساسية التي يمكنهم الاستمتاع بها في الكتاب المنشور بعناية فائقة من دار السويدي للنشر، نكتفي بالإشارة إلى ما يلي:
إن محمد الصفار قد خلص بعد إقامته القصيرة في باريز التي لم تتجاوز الشهر الواحد، وبعد ملاحظات ميدانية، إلى أن أساس نجاح الفرنسيين وتفوقهم في كل المجالات العسكرية منها والمدنية بكل مقوماتها هو النظام والترتيب. ويضيف موضحا في صفحات متقاربة أحيانا ومتباعدة أحيانا أخرى في نص الرحلة، وبطريقة منطقية لا يرقى إليها الشك، بأن النظام ليس بالعصى السحرية التي تلقى على الأرض لتجد الحلول لكل المشاكل المطروحة على وجه البسيطة وفي المجتمعات.  ويقر الصفار، وهو العالم الفقيه الذي تخرج من جامعة الفرويين بفاس  وانغمس في أجوائها الروحانية الكثيفة ونهل من كتب الفقه والتشريع الإسلامي على المذهب المالكي، أن ذلك النظام مبني على أسس مادية بحتة وعلمية دقيقة قوامها تعليم الرياضيات والعلوم الفيزيائية والكيمياء والميكانيكا والطبيعيات والتشريح وما إلى ذلك من العلوم الدنيوية التي قامت عليها الحضارة المادية الجديدة في الغرب. وأكتفي في هذا السياق باقتباس قوي من كلام محمد الصفار جاء فيه بخصوص تعريف العالم:

 "والعالم عندهم هو من له قدرة على استكشاف الأمور الدقيقة واستنباط فوائد جديدة وإقامة الحجج السالمة من الطعن على ما أبداه ورد ما عارضه به من عداه. وليس اسم العالم عندهم مقصورا على من يعرف أصول دين النصرانية وفروعها وهم القسيسون، بل ذلك ربما كان عندهم غير ملحوظ بالنسبة لغيره من العلوم العقلية الدقيقة".

إن هذه الملاحظة الدقيقة والقوية والعميقة في الآن نفسه، والتي أوردها صاحب الرحلة في خاتمة نصه  ضمن الحديث عن الميزانية الفرنسية، .لتعتبر في نظري المتواضع أهم نتيجة وأخطرها من بين نتائج أخرى  توصل إليها الصفار بعد رحلته المثيرة إلى الديار الفرنسية. وهذا بطبيعة الحال لا ينفي وجود ملفات أخرى وقضايا متنوعة لا تقل أهمية وعمقا وخطورة أثارت انتباه الصفار وأبدى فيها ملاحظاته الصريحة أحيانا والمضمرة أو المحتشمة أحيانا أخرى. ومع ذلك، فإن تلك القضايا لم تكن في واقع الأمر سوى امتدادا أو توضيحا للقضية المركزية في متن الرحلة ألا وهي نوعية الأدوات المستعملة لتحديد طبيعة النظرة إلى نسق الكون. وللتوضيح أكثر، يمكن القول ببساطة إن الفقيه النطواني محمد الصفار قد أتى من بيئة عربية إسلامية تسود فيها ثقافة دينية بالدرجة الأولى، وتحتل فيها الأمور الغيبية والعقائدية مكانة أساسية على جميع الأصعدة، وخاصة من حيث أدوات التفكير والتحليل والتفسير والتعليل. في حين، أن ما عاينه في فرنسا في هذا السياق يعتبر مناقضا تمام التناقض جملة وتفصيلا، ولا مجال للمقارنة بينه وبين ما هو سائد في بلده المغرب وفي بقية البلدان العربية الإسلامية.  
لقد اتبع الصفار في متن رحلته استراتيجية ذكية ومرنة في حديثه عن طبيعة العلم والمعرفة العلمية في فرنسا، حيث أنه لم يتجرأ على تخصيص باب واحد يفرغ فيه جعبته بخصوص هذه النقطة الحساسة والبالغة الأهمية. بل جاء الحديث عن العلوم البحثة ومختلف أصنافها في سياقات متباعدة ومتناثرة عبر صفحات النص. ثم يربط تلك الأصناف المعرفية بالشخصية الفرنسية وبعقلية أفرادها الناقدة والمنتقدة لكل شيء حين قال:
"وأهل باريز موصوفون بذكاء العقل وحدة الذهن ودقة النظر، ولا يقنعون في معرفة الاشياء بالتقليد، بل يبحثون عن أصل الشيء ويستدلون عليه ويقبلون فيه ويردون. ومن اعتناءهم بذالك، أنهم كلهم يعرفون القراءة والكتابة، ويدونون في الكتب كل شيء."

"حتى الصنائع فلابد أن يكون الصانع يعرف الكتابة والقراءة ليتقن صنعته. ويجب أن يبتدع في صنعته شيئا لم يسبق به، ولأنه إن فعل زادت مرتبته وعلت حظوته عند دولتهم، ويعطونه على ذالك ويمدحونه ويذكرونه بما استنبط ترغيبا منهم في الترقي في الأمور. فيكون كل شيء دائما في الزيادة، فذالك يحملهم على تدقيق النظر وإمعان التأمل، واستكشاف دقائق الخفيات في سائر تصرفاتهم."

"ومدار ذلك كله على الضبط والحزم والاعتناء التام وعدم الغفلة في الأمور. وإلا فليست لهم قوة في أبدانهم ليست لغيرهم، بل ربما كانوا أضعف من غيرهم في ذالك، وإنما الذي لهم الاعتناء والترتيب الحسن ووضع الأشياء في محلها، ويبنون أمورهم كلها على أصح أساس، ويستعدون للأمور قبل وقوعها، ولا يعرف حقيقة ذلك إلا من شاهده ".

وجاء حديثه عن علم الفيزياء كأحد العلوم الحاسمة في إحداث التغيير في المجتمع الفرنسي حين قال:
 "وفي غد ذالك اليوم ذهبنا لدار من ديار تعلمهم يسمونها دار الفزكـ، وهو اسم علم عندهم، ويترجمون عنه بعلم الطبائع وبعلم الكيمياء. ومداره على علم معرفة طبائع ذوات الأشياء، كجذب المغناطيس الحديدي وتموج الهواء بالصوت اذي يسير فيه، وغير ذالك مما لم نعرف له إسما. وفي هذه الدار ءالات غريبة وأشكال عجيبة".

"ولهم مدارس ومكاتب  حتى في علوم الطبخ والغرس البناء والزراعة ومعالجة النباتات وإنتاج الحيوانات وغير ذالك. فكل ما يسمعونه أو يرونه أو يستنبطونه أو يبلغ إليهم علمه، يدونونه في الدواوين ويحفظونه على مر الأيام".  ولاشك في أن عبارة "وغير ذالك مما لم نعرف له اسما" الواردة أعلاه  هي اعتراف صريح من جانب الصفار بجهل المغاربة ومعهم كافة العرب والمسلمين بتلك العلوم التي شكلت إحدى الركائز التي قامت عليها الحضارة المادية في الغرب.

وأدرك الصفار من خلال إقامته القصيرة في باريز، بأن هذه العلوم والمدارس التعليمية وما تزخر به فرنسا من قصور ومسارح ومكتبات ومطابع وصحف وطرق وإنارة وغير ذلك مما تطول الإشارة إليه في هذه الورقة المتواضعة ما كان ليصبح واقعا ملموسا بكل إيجابياته  لولا الحرص الشديد من جانب الحكام الفرنسيين على سيادة العدل والمساواة أمام القانون بين عناصر المجتمع الفرنسي. وفي هذا الصدد نقتبس من كلام الصفار ما يأتي:

 "إن صدرت من واحد منهم زلة أجروا عليه شريعتها، سواْ كان رفيعا أو وضيعا. وإن ظهرت لأحد منهم مزية أرقوه درجتها. للا يطمع أحد منهم في غير ما هو له، ولا يخاف على ما في يده أن ينزع منه. فعلى ذلك يبدلون مهجهم في المعارك، ويلقون بأنفسهم في المهالك. ولو رأيت سيرتهم وقوانينهم لتعجبت منها غاية العجب، مع كفرهم وانمحائ نور الإيمان من قلوبهم، وما راء كمن سمع الخ."

وإذا كانت الهزيمة العسكرية التي ألحقها الفرنسيون بالمغاربة في إسلي سنة 1844هي التي كانت وراء توجيه اابعثة المغربية إلى الديار الفرنسية من أجل مساءلة الذات ومحاولة فهم ما جرى، فإن الصفار قد تمكن عن طريق المعاينة الشخصية من إدراك شساعة البون الموجود بين بلاده المغرب وبين فرنسا. فخلص بعد زيارة البعثة المغربية لقطعة من البحرية الفرنسية إلى أن القوة العسكرية ليست سوى علامة ناطقة على حسن النظام ونتيجة له. ولم يكن في إمكانه أمام قوة الصدمة سوى أن يتحسر على حال بلاده ولىا حالة المسلمين كافة حين قال:

 "ومضوا وتركوا قلوبنا تشتعل نارا، لما رأينا من قوتهم وضبطهم وحزمهم وحسن ترتيبهم ووضعهم كل شيء في محله. مع ضعف الإسلام وانحلال قوته واختلال أمر أهله. فما أحزمهم وما أشد استعدادهم، وما أتتقن أمورهم وأضبط قوانينهم. وما أقدرهم على الحروب وما أقواهم على عدوهم، لا بقلوب ولا بشجاعة ولا بغيرة دين، إنما ذلك بنظامهم العجيب وضبطهم الغريب، واتباع قوانينهم التي عندهم لا تنخرم."

إن قراءة متن الرحلة في كل مستوياته القوية والضعيفة تجعلنا نحس بأن محمد الصفار قد  ظل ملتصقا بالوصف الدقيق والبليغ لمشاهداته، وأنه لم يحاول على الإطلاق توجيه أي دعوة للأفراد الذين كتب من أجلهم هذا النص سواء تعلق الأمر هنا بالسلطان والوزراء  وبأعضاء النخبة أو بغيرهم من عامة المغاربة والمسلمين. وأعني بذلك، أنه لم يتجرأ على توجيه أي دعوة ولو محتشمة للاقتداء بالفرنسيين في أي من السلوكات الإيجابية التي كلف نفسه عناء الكتابة عنها. ولم يتجرأ على المطالبة بتبني أي علم من العلوم، التي قامت على أساسها الحضارة الغربية الغازية. فقد ظل الصفار صامتا أمام كل محاولة تكون الغاية منها هي الدعوة إلى القيام بإصلاحات أو إلى إحداث التغيير في المغرب. وأعتقد بأن هذا في نظري المتواضع هو بيت القصيد في متن رحلة الصفار، وهو الذي يفسر لنا ولو جزئيا لماذا بقي نص الرحلة في طي الكتمان أزيد من قرن من الزمن، ولماذا لم تطبع الرحلة مباشرة بعد تسليم نسخة منها إلى السلطان، و لماذا لا توجد إلا نسخة واحدة من الرحلة ولم تستنسخ ولم يحدث تداولها في الأوساط المغربية. إن الصفار قد أتى من ثقافة مغربية محافظة ترفض التغيير، فجاءت كتابته في الرحلة وفية لهذا النسق. ومع ذلك، تظل قراءة رحلة الصفار مفعمة بالمتعة، وإن كانت تثير أسئلة مقلقة يعسر الجواب عنها.

د. خالد بن الصغير – المغرب

0 التعليقات:

إرسال تعليق