تنقسم الكتابات التاريخية حول مغرب القرن 19 إلى نوعين: خطاب تاريخي مغربي (وطني)، وخطاب أجنبي (كولونيالي).
أ-التأليف الأجنبي:
1-طبيعته: هو تأليف أجنبي عامة وأوربي خاصة، ليس موحدا ومتجانسا، إذ هناك اختلاف في طبيعة الكتابات الأجنبية، ومن تم ينبغي التعامل معها من حيث التخصيص (هناك كتابات اسبانية، فرنسية...) ولهذا وجب التمييز بين هذه الكتابات أولا لاختلاف مؤلفيها وثانيا لاختلاف زمن كتابتها أي أن هناك تمرحل في هذه الكتابات مما يفسر اختلاف غاية كل مرحلة من مراحل التأليف الأجنبي.
ويشكل هذا الإنتاج الأجنبي رصيدا هائلا ومتنوعا، كما أن مؤلفيه يختلفون من حيث الوظيفة، فهناك العسكريون، رؤساء البعثات، التجار، الأساتذة وضمن هؤلاء نجد من كانت لهم اهتمامات جامعية، ومنهم من دخل المغرب بصفته متسترة ودخل قسيسا مثل جوستيناز الذي كان بمنطقة سوس لمدة 15 سنة يعمل كرجل دين) بالإضافة إلى أن هناك من أتى بصفة ضابط الإستخبارات.
وتدل كثرة هذا الإنتاج على وجود علاقة غير متكافئة بين المغرب وأوربا خلال القرن 19 ، بمعنى آخر ننظر إلى هذا الانتاج في حد ذاته من منطلق ارتباط المعرفة العلمية والسلطة السياسية أي أن العلم في خدمة السلطة، إذ شكل ذلك الإنتاج نوعا من التحضير الفكري للمشروع الاستعماري، حيث ركز بالأساس على معرفة الكيان المستهدف (اقتصاديا وحضاريا وجغرافيا_...) تسهيلا لمأمورية الاستعمار.
ومما يؤكد هذه العلاقة الوطيدة بين العلم والسلطة في التأليف الأجنبي ما عرفه هذا الأخير من كثرة بموازاة مع سيطرة الأجنبي على المغرب بحث كلما تقوى التواجد الأوربي بالمغرب كلما تزايد عدد الكتابات الأجنبية: مثلا: إلى حدود منتصف القرن 19 لم يتجاوز عدد الكتابات 270 مؤلف ومع نهاية القرن وصل عددها إلى 2000 كتاب، (محمد جسوس).
2-تنوع هذه التآليف:
ونقصد به الاختلاف في اهتمامات أصحابها وفي الموضوعات المدروسة مما أدى إلى بروز نوع من التخصص، فكل اختص في موضوع ما فمثلا نجد:
- ليفي بروفنصال: تخصص في نشر النصوص القديمة، هو الذي أعاد النظر في قضية تأسيس مدينة فاس.
- هوداس: اهتم بنشر النصوص (ترجم جزءا كبيرا من الاستقصا).
- هنري تيراس: اهتم بكتابة تاريخ سردي عام كما اهتم بمجال العمران في بعض دراساته.
- جاك بيرك: اهتم بدراسة البنيات الاجتماعية للقبائل المغربية وقام بدراسة قبائل سكساوة، وكان من السباقين إلى توظيف النوازل الفقهية في هذا المجال، ومن بين النتائج التي توصل إليها هي أنه لدراسة واقع القبيلة المغربية دراسة موضوعية لابد من ربطها بمحيطها ووسطها الايكولوجي البيئي، أيضا من الذين اهتموا بدراسة القبائل نذكر:
-روبير مونتاني: دراسة قبائل سوس. انظر مؤلفه (البربر والمخزن).
- ميشوبلير: تاريخ الفكر الديني المغربي(الزوايا) كما ألف في مواضيع اقتصادية ومالية.
-J.Drague : اهتم بالتاريخ الديني من خلال تطور مؤسسة الزوايا.
-شارل دوفوكو: زار المغرب وكتب" التعرف على المغرب" الذي يعد نموذجا للمؤلفات الاستكشافية « Reconnaissance du Maroc »
ويمكن القول بصفة عامة إن هذا التأليف الأجنبي اهتم بكل أشكال التنظيم الاجتماعي وبجميع مظاهر الحياة الدينية وبأهم المؤسسات المغربية. ومع تهاية ق 19 أصبح هذا التأليف مهيكلا أي أصبحت هناك مؤسسة ستشرف على تنظيمه وطبعه ثم نشره، أهم وأخطر مؤسسة منظمة هي البعثة العملية التي أسست سنة 1903-1904 من طرف "لوشاتوليي" (أستاذ السوسيولوجيا بفرنسا" وبعده أسندت مهمة إدارتها إلى « Eugène Etiènne »
والأبحاث التي أشرفت عليها هذه البعثة كان من تمراثها أن بدأت تصدر بانتظام في دوريتين Les Archives Berbers et les Archives Marocaines وأصبح رئيس هذه البعثة " مشوبلير" ومن أبرز روادها « SALMON FUMEY » وقد حدد "مشوبلير" هدف هذه البعثة التي تحولت فيما بعد إلى البعثة الاجتماعية للشؤون الأهلية بقوله.
"إن هدف هذه البعثة هو البحث في عين المكان عن وثائق تسمح بدراسة المغرب وبإعادة تركيب تنظيمه وحياته ليس فقط بمساعدة الكتب والمخطوطات بل كذلك بفضل المعلومات الشفوية وتراث القبائل وجماعات الفرق الدينية والأسس إن الأمر يتعلق منذ البداية بدراسة سوسيولوجية".
وفي نفس السياق يتحدث ميشوبلير عن مهام هذه البعثة التي اعتبرت بمثابة البداية الفعلية" لعلم المغرب" قائلا:" لقد كان الأمر يتعلق عند إنشاء Les archives bérbéres بإقامة كشاف للمغرب وقبائله ومدنه وزواياه. وبالوقوف على أصول كل ذلك وتفرعاته وصراعاته وتتبعه عبر الدول المختلفة خلال التاريخ ودراسة مؤسساته وعاداته، وباختصار استكشاف – قدر المستطاع – المجال الذي سيكون علينا أن نعمل فيه استكشافا يمكننا أن نسلكه عن علم وأن نمارس سياسة أهلية دون أخطاء كثيرة ودون ضعف ودون عنف ولا داعي له، وأن ننشئ إدارة من المرونة قابلة لأن تنطبق على خصائص القبائل المختلفة مع حفاظها على كونها إدارة واحدة".
هذا ويجب أن لا ننسى أن الأجانب خلفوا عدة وثائق تهم تاريخ المغرب، فالتدخل الأجنبي بالمغرب كان من نتائجه أن وفر لنا مجموعة من الوثائق لم يكن للمغاربة عهد بها ، تتحدث بلغة الأرقام، وهي مفيدة جدا وأساسية لأنها أتاحت إمكانية دراسة جوانب اقتصادية من تاريخ المغرب في القرن 19، مثلا مكنت من إعطاء فكرة عن حجم الإنتاج وحجم وقيمة المبادلات.
وهناك صنف آخر من الوثائق التي خلفها التأليف الأجنبي والتي تمثلت في المستندات وتقارير البعثات العسكرية والدبلوماسية وتقارير الشركات التجارية، ومجموعها وثائق وتقارير اقتصادية، بعضها عبارة عن لوائح بأسماء الصادرات والواردات، وبعضها الآخر عبارة عن تحقيقات حول قطاع اقتصادي معين مثل الصيد البحري، ومن غير شك أن هذه الوثائق ساهمت بشكل كبير في معرفة أوضاع المغرب الاقتصادية وسمحت للفرنسيين والأجانب معرفة ميزان الأداءات ووضعية العمران.
واعتمادا على هذه الأبحاث أساسا ظهر بحث رائد للمؤرخ الفرنسي « J.L.Miège »تحت عنوان " المغرب وأوربا" في أربعة أجزاء حيث درس الجوانب الاقتصادية والعلاقات المغربية الأوربية من زاوية الأزمة واختلال التوازن في هذه العلاقات الاقتصادية.
3-أهم مراحل هذا التأليف:
تطور مراحل هذا التأليف يعكس تطور مراحل التغلغل الإستعماري ويمكن اختصار هذه المراحل حسب المؤرخ " إبراهيم بوطالب" إلى ثلاث مراحل:
-المرحلة الأولى: 1830- 1880.
انصبت الكتابات في هذه المرحلة على اكتشاف المغرب من حيث أنظمته الإجتماعية والسياسية، وهي مرحلة طغت فيها كتابات الضباط أكثر من العلماء، ويمكن تسميتها" بمرحلة التأسيس للغزو".
المرحلة الثانية: 1880- 1912.
عرفت هذه المرحلة تحسنا في الإنتاج كما وكيفا واتضحت فيها بشكل واضح النوايا الإستعمارية أي مقاصد هذا التأليف وأهدافه، فهي كتابات غلب عليها الطابع الإستعلامي، كما أن هذا التأليف أصبح يهدف بشكل منهجي إلى القيام بمسح للمغرب من حيث بنيته الطبيعية والبشرية بمزيد من الدقة وبالتالي أصبح الإلمام بتاريخ المغرب شموليا وأكثر عمقا خلافا للمرحلة الأولى، ومن أهم رواد هذه المرحلة نذكر: شارل دي فوكو، سيكونزاك، أوجين أوبان وBrives.
-المرحلة الثالثة: 1912- 1955
في هذه المرحلة التي تأكد فيها فرض الحماية، وأصبح البحث في تاريخ المغرب ينحى إلى قطاع وظيفي أي مهيكل في مؤسسات، وأصبح هدف الكتابات تبربر مشروعية الاستعمار، بمعنى أن العلاقة بين السلطة والمعرفة أصبحت أكثر وضوحا، فنظرت إلى المقاومة كشكل من أشكال الفوضى السائدة في مغرب ما قبل الحماية.
وخلاصة القول فإن الخطة التي اعتمدت عليها فرنسا بـهدف السيطرة على المغرب ما قبل الحماية قامت على:
- بحث استعلامي.
- تسرب تجاري.
- واعتداء عسكري.
4-نماذج من قراءات هذا التأليف الأجنبي لمغرب القرن 19:
إن حصيلة رصد وتتبع مختلف الكتابات الأوربية وخاصة الفرنسية منها أكدت أنها تدور في فلك ثنائي أو إزدواجي بمعنى آخر اختزال تاريخ المغرب في كونه منقسم غير موحد في بنيته، فهي كتابة نظرية تقوم على منطق ثنائي.
عرب /-/ بربر !على المستوى العرقي.
سهل/-/ جبل ! على المستوى الايكولوجي الطبيعي.
بلاد المخزن /-/ بلاد السيبة! على المستوى السياسي.
الشرع /-/ العرف! على المستوى القانوني.
تبدو هذه القراءة منسجمة من حيث البناء النظري، غير أن خلفيتها الايديولوجية واضحة ومكشوفة فهي تروم التأكيد على أن المغرب كان يعيش وما يزال في فوضى تاريخية شاملة وهذه الفوضى تمثل جزءا عضويا من كيان المغرب، لذلك فالمغرب بلد يحتاج إلى وحدة وحماية. (الحماية الفرنسية).
- الوصول إلى نتائج مسبقة أي أن المغرب لم يكن في يوم من الأيام قادرا على القيام بذاته كدولة قارة لأنه غارق في الفوضى إلى الأبد لولا تدخل دولة أوربية تضطلع بمهمة إدخاله في نطاق الحضارة والتمدن.
هذا لم يكن صالحا فقط لتبرير الغزو بل وظفت مثل هذه التفسيرات بعد الاستيلاء على البلاد لإقناع الرأي العام الأوربي بأن المقاومة التي تواجه المحتلون من طرف القبائل المغربية إنما هي بقية من ذلك المرض الذي جاءت أوربا لاستئصاله.
ما هي صورة المخزن والقبيلة في هذه الكتابات:
تعتبر أغلب الكتابات الأوربية المخزن كمؤسسة طفيلية فرضت نفسها على الشعب، كتمثال ضريبي غايته هي جمع أكبر قدر ممكن من الضرائب أي أن مهمة هذا الجهاز هو الابتزاز المالي ليصرف في تكوين ذلك الجيش، وفي هذا الصدد ومن أجل فرض نفسه اعتمد المخزن على سياسة" فرق تسد بين القبائل".
أيضا تم التركيز في هذه الكتابات على القبيلة، فحينما نتفحص كل هذه الكتابات نجد أن موضوع القبيلة هو الذي شكل الأساس في هذا الكتابات ويمكن تسميتها" بالموضوع المدلل (تركز على ما هو قديم)". فالتركيز على القبيلة ليس سوى حديث يهدف أساسا إلى إبراز الطابع التقليدي والبدائي لمجتمع قابل للرسالة الحضارية التي تكلفت فرنسا بنشرها في المغرب.
إلا أن الحديث عن القبيلة المغربية كان يتم انطلاقا من تصورات المدنية الغربية، والقبيلة رغم كثرة الدراسات التي أنجزت حولها تبقى كموضوع هي جسم فارغ أو هي عبارة عن هيكل عظمي تتصدع فيه الهوية المغربية بمعنى أنه لم ينظر في غالب هذه الكتابات إلى القبيلة المغربية كمفهوم تاريخي قابل للتطور التاريخي، وإنما نظروا أو تعاملوا مع القبيلة كمفهوم انتروبولوجي أي أن الكتابات الأجنبية نزعت إلى إبعاد الجانب التاريخي للقبيلة المغربية في دراساتها، وبالتالي عند الحديث عن القبيلة كثيرا ما نصادف لبسا وغموضا رغم أنها كواقع بسيط يمكن إدراكه معرفيا، لكن هذه الدراسات عقدت موضوع القبيلة، وقد قدمت القبيلة في الكتابات الأجنبية في الغالب في صورتين مختلفتين.
-التصور الأول: تعرف نوعا من التنظيم الذي يتم عن وجود حياة ديمقراطية، وأنها تعيش في وضع مستقر وتستوطن الجبال، وبالتالي تعكس العبقرية المحلية البربرية السابقة عن مجيء العرب والإسلام.
-التصور الثاني:يقدم القبيلة كجحافل من الغزاة استولوا على السهول، وطردوا عنها سكانها الأصليين، وظلوا يعيشون على السطو والاحتلال، ويكونون عماد وقاعدة السلطة المركزية. (إنهم القبائل العربية)، يرى "روبيرمونطاني" أن المجتمع المغربي هو مجتمع قبلي بمعنى أن القبيلة كانت هي أساس المجتمع المغربي، هذه القبائل ذات أصول مختلفة وتعيش في نفس البلد، أي أن المغرب إلى حدود دخول فرنسا عاش في ظل أنظمة قبيلة كمجموعة من العائلات ومجموعة من الأشخاص تربط بينهم مجموعة من الأواصر، ففي دراسته للقبيلة المغربية(روبيرمونطاني) ورصده لتطورها التاريخي كان هدفه هو أن يميز بين الأصول العربية والأصول البربرية للقبائل المغربية.
وبناء على هذا التوجه توصل في أبحاثه حول بعض المناطق إلى القول باختفاء العنصر البربري تحت ظل السيطرة العربية نتيجة عملية الاستيطان لموجة من العربية أفضت إلى انصهار واندماج القبيلة البربرية داخل هذه القبائل العربية، واعتبر القبائل البربرية في علاقتها مع المخزن هي في وضع هامشي أي أن هذه الوضعية تكتسي طابعا سياسيا، فهذه القبائل ترفض السلطة الفعلية للسلطان ولكن تقبل سلطتة الروحية (رفض دفع الضرائب مقابل ذكر اسم السلطان في خطب الجمعة).
رأي أيضا أن القبائل العربية سعت إلى تعريب عدد من القبائل البربرية وبالتالي إلى احتوائها ، بمعنى أن القبائل العربية كانت لها مصالح مشتركة مع المخزن، فكانت هي المساهمة في تموين الوحدات العسكرية، كما كانت تساهم دون أدنى معارضة في تأدية الضرائب، و بالمقابل كانت تحظى بكثير من الامتيازات.
يقول « André Adam »:" إن رواد السوسيولوجيا المغربية Salmon و Doutée وميشوبلير وMouliéras، يعطون صورة للمجتمع المغربي يطبعها لون سائد ألا وهو لون قديم، ألم يعملوا على تقوية هذا اللون لاإراديا وبدون وعي منهم لكي يبرروا ويظفوا مشروعية بداية التدخل الفرنسي".
Bibliographie et critique d’Ethmologie.
وف ذات السياق يقول" الخطيبي" في تقيمه للسياسة العلمية التي نهجتها فرنسا: "بعد استسلام البلاد بالقوة، يجب الشروع في التشييد الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بغزو القلوب والعقول، وبهذا يجب إقامة تفاهم أخوي وتعايش سلمي مثمر أساسه إدارة ملائمة ومعرفة دقيقة بالتقاليد والأخلاق".
النظرية الانقسامية.
استمرت عملية التأليف الأجنبي حتى بعد الاستقلال تمثل في الإنتاج الانكلوسكسوني، ومن بين النظريات التي طبقت على تاريخ المغرب في القرن 19 هناك النظرية الانقسامية، وبخصوص البدايات الأولى لتبلور هذه النظرية قبل أن تطبق على المغرب يمكن التأكيد منذ البداية أن رواد هذه النظرية رأوا في المجتمع القبلي المغربي فضاءا خصبا لتطبيق هذه النظرية، ويبدو أن"دوركايم" هو المؤسس الأول للمفاهيم الأولية للنظرية الانقسامية باعتباره أول من استعمل كلمة الانقسامية في دراسته للمجتمعات وتطورها، فأطروحته الأساسية حول المجتمع ترتكز على أن المجتمعات تتطور تدريجيا من مرحلة التضامن الآلي إلى مرحلة التضامن العضوي بمعنى أن التضامن الآلي يكون في حالة تشابه فئات المجتمع، في حين التضامن العضوي يكون في حالة تباين فئات ومكونات المجتمع. ما يثير الإنتباه أن نظرية" دور كايم"كان من الطبيعي أن تحظى باهتمام الكتاب الفرنسيين، غير أن أول من طور مفهوم الانقسامية وطبقه هو إيفانس بيرتشارد" Evans Pittechard" حاول تطبيقها على" قبائل النوير في السودان"، ومن خلال دراسته هاته صاغ نظرية متكاملة التي أصبح يطلق عليها بالنظرية الانقسامية.
الخلاصة أن " دوركايم" هو الذي وضع الأسس النظرية للنسق الانقسامي، واعتبر أن المجتمع القبلي هو مجتمع انقسامي قائم على جماعات أو قسمات متعددة متضامنة ومتصارعة في نفس الوقت.
نموذج للدراسات التي طبقت النظرية الانقسامية على المغرب.
من أبرز الإنقسامين هو « Ernest Guelner »طبق نظريته على المغرب في دراسته لقبائل الأطلس الكبير وسماها " صلحاء الأطلس زاوية احنصال".
دافيد هارت « David Hart »طبق نظريته على قبائل بني ورياغل بالريف، وهناك دراسة أخرى ليس على المجتمع القبلي بل على المجتمع السياسي هي دراسة" جون واتريوري" وسماها " أمير المؤمنين الملكية المغربية ونخبتها".
خاصيات المجتمع الإنقسامي :
*مجتمع ينقسم بصفة لا متناهية إلى عدة قسمات يتكون من مجموعات متشابكة فيما بينها والرابط الذي يربط بين هذه المجموعات هو حبل النسب الأبوي حيث يدعي مجموع الأجزاء الأنتساب إلى جد مشترك، هذه الأجزاء تكون في مستوى من المستويات متصارعة وفي مستوى آخر تصبح متحدة، هذه الخاصية تسمى بالانصهار والانشطار، وهي خاصية تجعل المجتمع المغربي مجتمعا ثابتا لا يعرف الانفجار.
*النظرية الإنقسامية ترى أن هذه القسمات تقوم بوظائف متباينة ولكنها في نهاية المطاف متكاملة تضمن السير للقبيلة وخاضعة لنفس التنظيم.
*المجتمع القبلي يجهل تقسيم العمل بين الأفراد، وبالتالي لا يعرف التراتبية الاجتماعية وتكون فيه سلطة الزعماء محدودة، فهناك إذن نوع من المساواة في مستوى العيش بين تلك القسمات:
*هذه المجتمعات يقوم فيها الزعيم الديني بدور التحكيم بين القسمات المتنازعة فيحول دون تفجير الصراعات، كما يلعب دور الوساطة بين هذا المجتمع القلبي والسلطة المركزية.
ملخص موجز حول مفهوم النظرية الإنقسامية:
ارتبطت المقاربة الإنقسامية أساسا بالأنثروبلوجية السكسونية التي اهتمت بدراسة التشكيلية الاجتماعية السياسية المغربية منذ الحرب العالمية الثانية، ويصح القول بأن النظرية الإنقسامية قد مارست تأثيرا مغريا على الباحثين واعتبرت المجتمع القبلي المغربي نموذجا حيا لتطبيقها، ويبدو أن "دوركايم" هو أول من استعمل مفهوم النظرية الانقسامية لدراسة المجتمعات وتطورها، ثم عرف المفهوم في السنوات الأخيرة تداولا واسعا على يد الباحثين الأنكلوسكسونيين كما تجلى ذلك في أعمال" إرنست كيلنر"، " دافيد هارت" و "واتريوري".
وحسب النظرية الإنقسامية فإن المجتمع يتكون من مجتمعات متشابكة بعضها ببعض، وترتبط فيما بينها بحبل النسب الأبوي، حيث يدعي مجموع الأجزاء الإنتساب إلى جد مشترك، ويمكننا أن نرمز إلى هذه الأجزاء بواسطة مجموعة من الدوائر المتحدة المركزية تتطابق أكبرها على الوحدة القبلية وأصغرها على الفرد، وتقوم هذه الأجزاء بوظائف متباينة إلا أنها تبقى مع ذلك متكاملة وخاضعة لنفس التنظيم.
ومن مميزات البنية الإنقسامية أيضا أن الجماعة الإنقسامية تكون متضادة في مستوى أدنى، وتتحد اتحادا آليا عفويا في مستوى أعلى. والمجتمعات الانقسامية تجهل التراتب الإجتماعي وتكون فيها سلطة الزعماء محدودة وضعيفة، والزعيم الديني(الولي الصالح) يلعب دور الحكم في النزاعات التي نحصل بين القسمات، وهو بذلك يضمن استمرارية المجتمع الإنقسامي المهدد دائما بالانفجار من جراء النزاعات التي تفرزها بنياته.
وأهم الانتقادات التي وجهت للنظرية الانقسامية هي كون هذه الأخيرة تفترض أن القبائل في وضعية تسيب، ولا تعترف بسلطة المخزن الزمنية، وترفض أداء الضرائب، ولا تشارك في الخدمات العسكرية المخزينة، ومن ثم فالجماعات التي تكون متناحرة في المستويات الدنيا تتحد في المستوى الأعلى لمواجهة المحلة أو الحركة. غير أن عدة دراسات منوغرافية لبعض القبائل أثبتت أنها كانت في الغالب خاضعة للسلطة المركزية، وتجلى هذا الخضوع عمليا في وجود ممثلى الجهاز المخزني والمراكز العسكرية المخزنية، كما كان يتجسد في مساهمة معظم القبائل المغربية في الواجبات الجبائية والعسكرية، كذلك تفترض النظرية الإنقسامية وجود مساواة مطلقة الأجزاء. ويمكن أن تجد هذه المقولة ما يزكيها في مجالس جماعات القبيلة، فمبدئيا كانت هذه المجالس مفتوحة أمام جميع الرجال القادرين على حمل السلاح، غير أن الباحث " عبد الله حمودي" يؤكد على انه برصد التركيب الإجتماعي لأعضاء هذه المجالس نجد أقلية ذوي النفوذ الاقتصادي تتحكم في اتخاذ القرارات وبالخصوص فئة كبار الملاك والشرفاء ورجال الدين مقابل العوام. كذلك يمكن رصد التمايز على مستوى القسمة (العظم) حيث يقع التمييز بين الأسر الأصلية والأسر الطارئة، إذ من المعلوم أنه كانت عدة عوامل عبر تاريخ المغرب تدفع الأسر إلى التنقل بين القوى والقبائل كالبحث عن قرية آمنة وهو أمر يحدث في أيام الحروب والفتن، أو لعوامل اقتصادية محضة، أو لعوامل صحية كانتشار الأوبئة الفتاكة والمجاعات، وكانت الأسر التي تضطر لتغيير سكناها تبقى دائما محتقرة ومهمشة لا رأي لها وسط القرية.
ب-التأليف المغربي:
1-تطور الكتابات التاريخية المغربية
هناك نوع من الاجماع بين المهتمين على تطور البحث التاريخي بالمغرب (بشقيه الأكاديمي والعلمي)، فقد حقق نوعا من التطور الكمي والنوعي. هذا التطور ينبني على تمحيص واستقراء لمختلف مراحل تطور الكتابة التاريخية المغربية من جهة، ومن جهة ثانية فإن الاهتمام بالاستغرافية النقدية هو اهتمام حديث بالمغرب. بمعنى أنه من قبل لم تكن تصدر دراسات نقدية تاريخية هدفها هو نقد وتقويم ما ينتج. لكن في السنوات الأخيرة صدرت عدة دراسات نقدية تاريخية هدفها هو نقد وتقويم ما ينتج. لكن في السنوات الأخيرة صدرت عدة دراسات ومقالات راجعت وقومت المنتوج التاريخي المغربي. وفي هذا الصدد لا ننكر وجود بعض الدراسات السابقة عن هذا العهد، نذكر منها كتابات" ليفي بروفنصال" مؤرخو الشرفاء"، هذا الكتاب يعتبر كتابا نقديا للتأليف التاريخي التقليدي بحيث حاول أن يعرف بخصائص ومميزات هذا التأليف التقليدي مثل كتابات" الناصري" – " الضعيف" و" الزياني"، هذا الاهتمام الذي هو في تطور يمكن القول أنه جاء وليد التطور التاريخي العام، بمعـنى أن مؤرخ اليوم أصبح يصادف ويواجه مشاكل لم تكن معروفة في السابق ولم يعشها مؤرخ الأمس يمكن اختزالها في إشكالات معرفية ومنهجية راجعة لتوسع مفهوم الوثيقة وانفتاح الكتابة التاريخية على العلوم الإنسانية الأخرى والتطور الحاصل من حيث استثمار أنواع مختلفة من المصادر، ومرتبطة بمسألة التحقيب ومسألة الاتجاهات.
هذه المعطيات تفسر لنا الاهتمام الحاصل بتطور الكتابات النقدية التاريخية
وإذا أردنا أن نلم بمراحل تطور الكتابة التاريخية المغربية فثمة اختلاف بين المهتمين بهذا الموضوع، فهناك من يحدد مراحل هذا التطور في مرحلتين وهناك من يحددها في ثلاثة مراحل.
قبل ذلك نود أن نبرز الشروط التي ساهمت في انطلاقة الكتابة التاريخية المغربية وتوفير المناخ اللازم لممارستها.
1)-وجود حصيلة هامة من الكتابات التاريخية التقليدية: كتب في مراحل سابقة( حوليات، تراجم وغيرها) أصبحت في متناول الباحث، (عملية طبع بعض المصادر – تحقيقها_(
2)-خلال مرحلة الحماية ظهرت كتب لمفكرين مغاربة، البعض اعتبر هذه الكتابات بأنها تؤرخ للبداية الصحيحة للكتابة التاريخية الحديثة بالمغرب والقاسم المشترك بين هذه الكتابات أنها جاءت على شكل كتابات " منغرافية تقليدية" "المختار السوسي": "المعسول" / محمد بن داوود" تاريخ تطوان" "بوجـندار": "تاريخ رباط الـفتح"، إبن زيـدان" الاتحاف" الكانوني " آسفي قديما"، جل أصحاب هذه المصنفات متشبعين بالقيم الإسلامية ويعدون على حساب التيار السلفي.
3)-وجود خزائن وفتح بعضها، تضم مجموعة من المخطوطات لم تكن متداولة من قبل إما في ملك العام أو في ملك الخاص، بالإضافة إلى وجود رصيد توثيقي هام في الخزانة الحسنية، هذا الرصيد يغطي في مجموعه القرن 19 بالإضافة إلى مجموعة من الكنانش أفادت في ميلاد بحوث تاريخية اهتمت بالمجال الاقتصادي، مثال: "الأمناء" لنعيمة التوزاني، والاعتماد على هذه الكنانش فند زعما كان يؤخذ على الأرشيف المغربي ألا وهو خلوه من لغة الأرقام والإحصاء.
4-القيام بما يسمى بالفهرسة حيث تمت عملية رصد هذه الوثائق وترتيبها في كتب كدليل بيبلوغرافي، وفعلا صدرت 5 فهارس للمخطوطات والوثائق، هذا بالإضافة إلى صدور دورية "الوثائق "من طرف مديرية الوثائق الملكية (عبد الوهاب بن منصور).
5-وجود ركام هائل من الكتابات الأجنبية حول تاريخ المغرب في القرن 19، هذا بالإضافة إلى إمكانية الرجوع إلى الوثائق الأجنبية الخاصة بتاريخ المغرب والمحفوظة في الأرشيفات الأجنبية.
2- مراحل تطور التأليف التاريخي:
*المرحلة الأولى: هي المرحلة الوطنية من 1956 إلى 1976.
*المرحلة الثانية: من 1976 إلى ما بعد 1980 وهي مرحلة وضع الأسس لتاريخ علمي شامل.
أ-المرحلة الأولى: رافقت فجر الاستقلال، وهي تؤرخ لضرورة استكمال الاستقلال السياسي بالاستقلال الفكري أي أن هذه الكتابات كان هاجسها هو الرد على الكتابات الاجنبية، هدفت إلى دحض المقولات الاستعمارية من خلال إبراز عيوب الكتابات الكولونيالية. وفي ردها على هذه الكتابات وجدت نفسها مهتمة بمواضيع معينة مثل التركيز على أقدمية وجود الدولة المغربية، كما سعت إلى إبراز مقومات الشخصية المغربية العربية الإسلامية.
هذه التصورات من الطبيعي أنها ارتكزت وقامت على إعادة قراءة الوثائق والمصادر التي اعتمدتها الكتابات الأجنبية قراءة مغايرة.
ومن مؤرخي هذه المرحلة نذكر" علال الفاسي": " نداء القاهرة" " الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" وفي تقديم هذا الكتاب تطرق للرد على ما جاء في كتاب "العصور المظلمة" لكوتيه. و" محمد بن الحسن الوزاني" زعيم حزب الشورى والاستقلال. و" عبد الله إبراهيم" " صمود وسط الإعصار" يرد فيه على بعض الأطروحات الاستعمارية التي قرأت تاريخ المغرب قراءة مغلوطة.
ومن اهتمامات" علال الفاسي" تقييمه لكتاب أحد مؤرخي الجيل الثاني وهو" عبد الله العروي" يقول في مقاله النقدي حول كتاب " تاريخ المغرب":
" كتاب تاريخ المغرب سد فراغا كانت تتوقف عليه المكتبة المغربية، صدوره دليل على أن وعي النخبة المغربية قد اتجه نحو اكتشاف الحقيقة الوطنية عن طريق البحث العلمي في مراحل تاريخ وطننا ككل لا يتجزأ، كمغرب كبير موحد وكاجتماعيات منبثقة من نموذجنا الوطني، وتفاعلاتها مع حضارات الشرق والغرب الوافدة إلينا ومحاولتنا للإبقاء على حضورنا كـأمة لها كيانها الخاص ووحدتها الترابية والثقافية التي تعبر عنها ردود فعلنا الواحدة فرادى وجماعات، إنه عرض تاريخي لا يقصد منه التاريخ بقدر ما يقصد منه إعادة البناء لواقع اجتماعي وسياسي بمقدماته وتناقضاته ونتائجه. لقد بدأ المؤلف الكتاب بمقدمة حلل فيها في الصفحة الأولى ادعاءات الأجانب سوء الحظ الذي رافق المغرب في تاريخه فجعله فاشلا في محاولات بناء استقلاله ووحدته، وقال أن سوء الحظ الحقيقي هو وجود مؤرخين غير أكفاء من الأجانب مع ضعف النقاد والمؤرخين المغاربة، ولم يتم عتق التاريخ ويسجل المؤلف شعوره بأن تجاهل ما يكتبه المستعمرون أو التقليل من أهميته مضر وغير مفيد".
ثم يأتي جيل ثاني في السبعينات من أبرزهم" جرمان عياش" و"عبد الله العروي"، هذان المؤرخان ساهما في تطور البحث الثاريخي وواصلا عملية الرد على الكتابات الأجنبية ودحض كل المقولات الإستعمارية بطريقة علمية مبنية على منطلقات منهجية جديدة وعلى رصيد توثيقي وافر وغني، وكانت هذه الطريقة أعمق من سابقتها، وطبعا هناك اختلاف بين" جرمان عياش" والعروي"في تصوراتهما.
يمكن تلخيص طرح"جرمان عياش " في دعوته إلى إعادة كتابة المغرب من خلال حثه وإصراره على البحث عن مصادر جديدة،في مقدمة هذه الوثائق الوثيقة المخزنية، هذه المسألة لها دلالتها في فهم تصور"عياش" والمنهج الذي سار عليه، فتركيزه على الوثيقة المخزنية هو في العمق يعكس تركيزه على مباحث خاصة بتاريخ المغرب في مقدمتها الاستدلال على وجود الدولة المغربية منذ القدم.
هذا بالإضافة إلى إعادة قراءة المصادر والوثائق التي تم استغلالها من طرف المستعمرين وتوظيفها توظيفا مغايرا. ومن أهم المواضيع التي تعكس المنحى الذي سار عليه" عياش" إبرازه الوظيفة التحكيمية للمخزن، وهو رد ضمني حول الزعم الذي يرى أن دور المخزن كان طفيليا.
ولا يمكن أن نفهم موقف" عبد الله العروي"من إعادة كتابة تاريخ المغرب وموقفه من الكتابات الأجنبية حول هذا التاريخ إلا باستحضار المشروع الفكري الحضاري للعروي. ففي إطار كتابات العروي التاريخية دعا إلى نقد النظريات والآراء الاستعمارية التي يراها مبنية على أسس تاريخية مغلوطة من جهة، ومن جهة أخرى اعتبر الكثير من الآراء الأجنبية هي قائمة على تأويلات مسبقة.
ومن بين المقولات التي يركز عليها "العروي" أن الكثير من الأجانب يقولون بأن المغرب في تاريخه مني بسوء حظ هذا القدر وهو عدم قدرة المغرب على التفكير الكفيل بإخراجه من تخلفه. وفي رد العروي على مثل هذه الأطروحات يقول بأن سوء حظ المغرب لا يكمن في مثل ما طرحته الكتابات الأجنبية، ولكن سوء حظه يكمن في كون تاريخ المغرب كتب من طرف مستعمرين بعيدين عن التاريخ (جواسيس وخبراء...)
من هذه الزاوية يمكن اعتبار كتاب"تاريخ المغرب" مؤشر لمرحلة من مراحل تجديد وتطوير كتابة تاريخ المغرب ويمثل من جهة خلاصة مرحلة فكرية في تاريخ المغرب. والعروي من دعاة تجاوز النقد السادج وضرورة الرد على المستعمر من خلال إنجاز أبحاث علمية مضادة.
ب-المرحلة الثانية: ما بعد السبعينات، تغيرت فيها كثير من الشروط، تتميز بانخراط الجامعة في توسيع دائرة البحث التاريخي وبظهور باحثين ذوي تكوين مختلف عن المرحلة السابقة خصوصا من الناحية المنهجية. ويمكن التمييز بين ثلاث اتجاهات في هذه المرحلة:
-الاتجاه الأول: هو اتجاه تربطه أكثر من صلة بالجيل السابق يمثل نوعا من الاستمرارية ويتمثل في مجموعة من الدارسين، وقد أكد كثير من أصحاب هذا الاتجاه على أن فهم ماضي المغرب يقتضي التركيز والإنطلاق أساسا من ضبط ورصد التاريخ السياسي، وهذا لا يتم إلا من خلال تطور علاقة المخزن بالرعية، كما ركزوا على جوانب مرتبطة بالجانب السياسي مثل كتاب الحماية القنصلية- الأمناء – التنظيمات الحبسية.
الإتجاه الثاني: نزامن مع موجة فكرية ظهرت في العالم العربي الإسلامي والتي تدعو إلى إحياء التراث، الشيء الذي أثر على مواقف هذا الإتجاه.
وأصحاب هذا الاتجاه رأوا أن إعادة كتابة تاريخ المغرب تقتضي التنقيب والبحث عن مصادر قديمة تمت الإشارة إليها في كتب أخرى غير مستعملة، وبالفعل تم الكشف عن مجموعة من المصادر التي كانت موجودة ولم تكن معروفة" كالضعيف" وزهر الأكم"وغيرها ثم نشرها والعمل على تحقيقها الجزئي أو الكامل.
من رموز هذه المرحلة:كنون – محمد بن تاويت – بن سودة(دليل مؤرخ المغرب الأقصى).
الإتجاه الثالث:أصطلح عليه بالإتجاه المنوغرافي الذي كان من أول مؤسسيه"أحمد التوفيق" في دراسته" لقبيلة إينولتان"أصحاب هذا الاتجاه يرون أن أحسن طريقة لإعادة كتابة تاريخ المغرب هي الدراسة الجهوية أي دراسة كل منطقة على حدة في فترة زمنية ومكانية محددة، وهي كفيلة بتخليص المغرب من العموميات، وذلك من خلال الربط بين المستوى الخاص والعام، وهي منطلق ميلاد تاريخ شامل.
إذا أخذنا مثلا أطروحة" بلاد المخزن" و" بلاد السيبة" نلمس أن هذه الثنائية كتبت بطريقة تؤكد نوعا من التقاطع التام بين منطقة خاضعة للمخزن وأخرى غائبة عن هذه السلطة. أما بعد الاستقلال فكثيرا من الباحثين المغاربة ذهبوا إلى إنكار هذه الثنائية جملة وتفصيلا، بمعنى أن المغرب لم يعرف في تاريخه السيبة. أما في مرحلة ثانية لم يعد الرد هو الذي يهم، بل أصبح طرح الأسئلة هو الأهم. ما المقصود بالمخزن؟ ما المقصود بالسيبة؟ هل كانت العلاقة بين المنطقتين واحدة أم مختلفة؟
في خضم هذه المرحلة بدأت تظهر بعض الرؤى المغايرة للمرحلة الأولى التي لا تنفي الثنائية، بل تفسرها، أي لا تنفي واقع السببية بل تقر ضمنيا بوجودها.
فجرمان عياش يلح أن بعض مناطق المغرب شهدت انتفاضات قبلية وضعتها الكتابات الاستعمارية ببلاد السيبة، وهذه الانتفاضات شهدها العالم بأكمله وليس المغرب وحده الذي عرف هذه الظاهرة. وزاد في تفسيره أن التدخل الأجنبي لعب دورا كبيرا في تأجيج الإنتفاضة القبلية.
كما ان " العروي" في تفسيره لهذه القضية يذهب بعيدا فهو يرى أن السيبة مفهوما مخزنيا أصيلا يرتبط بأعراف المناطق القبلية. وأهم من هذا اعتبر السيبة انتفاضة قبلية كواقع تاريخي وهي تعبير عن رغبة النخبة القبلية في المشاركة في تسيير دواليب المخزن المغربي.
أما التيار المنـوغرافي فقـد رأى القضية من زاويـة أخـرى "فأحمد التوفيق" في سياق حديثه عن قضية السيبة وفي بنائه لتصور بديل للطرح الأجنبي فسر الأمر بالرجوع إلى ابن خلدون " بشعاعية وشعاع السلطة"، حيث اعتبر أن حضور السلطة لم يكن متساويا في كل الأطراف (تركز السلطة في المراكز )، فقد تبنى المقولة الخلدونية التي تؤكد انحدار نفوذ الدولة كلما ابتعدنا عن المراكز ، أي تقلص شعاع سلطة المخزن في الأطراف، ومن هنا اعتبر حضورا المخزن في المناطق التي وصفت ببلاد السيبة حضور بتأرجح بين ثلاث وضعيات:
*وضعية شغور ( مكان المخزن غائب)
*وضعية جور(حينما تكون القبائل عرضة للابتزاز المالي)
*وضعية اعتدال (حينما تكون العلاقة طبيعية).
ملخص:
مع فجر الاستقلال وجد المؤرخ المغربي نفسه أمام عدة إشكالات تمحورت أساسا حول كتابه التاريخ المغربي، ولا شك أن الجدل حول التاريخ وكتابته يبقى موضوعا متعدد الجوانب والإشكالات، وملفا مفتوحا سواء من حيث مفهوم الكتابة التاريخية أو من حيث الأدوات والمفاهيم المنهجية لعملية التأريخ، أو من حيث الرؤية التي سوف تتحكم في كل إنتاج تاريخي، ورغم هذه الصعوبات فقد توالت الأصوات الداعية إلى كتابة تاريخ المغرب باعتبار أن تاريخ المغرب الصحيح – طبقا لأكثر من رأي –لم يكتب لحد الآن، فكتابات الأجانب ليست تاريخا يمكن الركون إليه بحكم حمولته الإديولوجية الإستعمارية، بينما يمثل ما كتبه المؤرخون التقليديون رصيدا ناقصا لا يمكن الاكتفاء به. من هنا وجب الشروع في كتابه تاريخ المغرب، على أنه يتعين التأكيد أن تجاوز الكتابة التاريخية المغربية المعاصرة للقصور المنهجي للاستغرافية التقليدية من جهة، ودحض مقولات التأليف الإستعماري لا يعني القطيعة المطلقة مع هذا الإنتاج الكلاسيكي، بل لقد حاول أكثر من باحث اعتماد التأليف المغربي القديم كأساس بالنظر لما يزخر به من مادة تاريخية غنية. وبالرغم من التضييق الذي لقيه التاريخ كحقل للبحث في فترة الستينيات حيث أصبحت الدولة" تنظر بعين الشك والحذر إلى كل تأويل نقدي للتاريخ، بل أكثر من ذلك صار ينظر إلى التاريخ ومعه علوم اجتماعية أخرى كمواد خطيرة يمكن أن تستغل سياسيا لتمرير الأفكار المستوردة.
فقد استطاعت بعض الأسماء تجاوز هذه العوائق وأخرجت إلى النور أعمالا أهم ما ميزها هو حرص أصحابها على إبراز أقدمية وجود الدولة المغربية وأصالتها مع نقد الأطروحات الأجنبية نقدا منفعلا ومتسرعا، ومدفوعين بوطنيتهم في المقام الأول. ومهما حاول البعض أن يجد تفسيرا لهذا المعنى وتبريرا لهذا التوجه بالقول بأن المرحلة هي مرحلة حماس وطني وأنها كانت تتطلب ذلك فإنه" ينبغي أن تظل الوطنية بوصفها معيارا لتقدير الكتابات التاريخية موضع شك القارئ الناقد"
إلا أن بداية السبعينات دشنت منعطفا جديدا في الكتابة التاريخية المغربية بناء على انفتاح الجامعة المغربية الحديثة على تيارات فكرية غربية كان لها التأثير الواضح في مسار تطوير البحث في العلوم الإنسانية عامة وعلم التاريخ خاصة.
وفي ظل هذه التأثيرات الفكرية دون أن ننسى بروز دعوات ترمي إلى التنقيب عن الثرات طرأت تغييرات جذرية فتحت أمام المشتغلين بحقل التاريخ آفاقا واسعة ومجالات بكرا لم تطرق بعد. هكذا حاول البحث التاريخي المعاصر إضاءة جوانب ظلت لزمن طويل غير معروفة رغم ما لها من أثر فعال في تطور تاريخ المغرب.
وإذ كان الهدف واحد وهو إعادة كتابة تاريخ المغرب، فلقد تعددت الرؤى واختلفت الاجتهادات، حيث حاول كل باحث أن يـجدد طبقا لرؤيته، مما يجعل تقييم هذه الإنتاج التاريخي من زاوية معينة أمرا صعبا وشائكا، فيكاد يجمع الكل على أن الاستغرافية المغربية المعاصرة قد حققت تطورا نوعيا سواء من حيث الكم أو الكييف، إلا أن البعض بتحفظ في الحديث عن وجود مدرسة تاريخية مغربية ذات ملامح متميزة وخاصة، لكن هذا لا يمنع من رصد بعض سمات هذا الانتاج التاريخي وإن غلب عليه طابع التجريب والتشتيت، بمعنى تعدد اتجاهات البحث في غياب استراتيجية عقلانية تهدف تحديد كتابة التاريخ بشكل يوازي تحديث المجتمع على حد تعبير عبد الله العروي، ومع ذلك يمكن تحديد أهم هذه الاتجاهات:
1-اتجاه حاول إعادة الاعتبار للتاريخ المغربي من خلال إحياء التراث عبر التنقيب عن الوثائق والنصوص وضبط سياقها التاريخي الصحيح.
2-اتجاه يؤكد على ضرورة ضبط التاريخ المغربي بالعودة إلى إعادة قراءة الوثائق التي اعتمدها المؤرخ الاستعماري، مع البحث عن وثائق جديدة والمخزنية منها بالخصوص.
3-اتجاه يرى ضرورة تجاوز النقد الساذج والقيام بنقد إبستملوجي مع محاولة تأسيس الكتابة التاريخية التركيبية.
4-حاول هذا الاتجاه التدقيق في الكتابة التاريخية من خلال إنجاز منوغرافيات أو بحوث تجريئية تدرس الموضوع زمانيا ومكانيا في أفق تكثيف نتائج هذه الاعمال وتركيبها في إطار بحوث شاملة.
ويبقى التساؤل حول الكيفية التي تم بها التعامل مع الاستغرافية التقليدية: هل يرفض رواد البحث التاريخي المعاصر في المغرب الانتاج التقليدي لقصوره المعرفي المنهجي، أم يدعون إلى التجديد بالارتكاز على نتائجه رغم ثغراته؟
يمكن التمييز في هذا الإطار بين تصورات مختلفة تختلف في المنطق وتتفق في الهدف، وسنقتصر على نموذجين:
فالباحث " جرمان عياش" يؤكد أن" ما كتبه المؤرخون التقليديون ناقص لا يمكن الوثوق به " ويضيف في مقال آخر " ففيما يتعلق بالقرن 19 نتوفر على مجموعة من الكتب إما مخطوطة أو مطبوعة لبعض الرواة كالناصري مثلا، لكن هذه الكتب لا تكفي، لأن الراوي لا يهتم آنذاك بالتعمق في الأحداث، ولا يهتم إلا بما يخرق العادة" فالأستاذ" جرمان عياش" يؤكد على النقص والقصور الذي يطبع التأليف التاريخي التقليدي ويرفض طريقة تعامل المؤرخ الراوي مع الوثيقة والحدث.
ويبقى أهم تعامل مع الاستغرافية التقليدية كمادة لمعرفة الوقائع هو الذي جسده المؤرخ" عبد الله العروي" باعتباره من الباحثين القلائل الذين أعادوا النظر في طريقة تناول التأليف التقليدي، يقول " العروي": إن الكتابة التاريخية كتابة الناصري، ابن زيدان، المختار السوسي ومحمد داوود لا يمكن أن تتجاوز مادامت حدودها قائمة، ولكن تلك الحدود هي المفاهيم المعتمدة فيها: الحقبة، الحدث، الوثيقة ما دمنا ندرس نفس المواضيع في نفس السيرورة الزمنية معتمدين على نفس الوثيقة".
"فالعروي" إذن يختار كما أكد أحد الباحثين توظيف الاستغرافية لدراسة تصوراته، وبما أن التأليف التقليدي اهتم بالحكام، فإن" العروي" يحاول أن يستنطق النصوص قصد الوصول إلى معرفة أشكال حضور مسألة السلطة في ذهنية المؤرخين القدامى.
وكل هذا وذاك لا يعني القطيعة المطلقة مع الانتاج الكلاسيكي بقدر ما هو تعبير عن الرغبة في اعتباره كمنطلق لتقعيد عملية البحث التاريخي في إطار الدعوة إلى إعادة كتابة تاريخنا المحلي.
وللتلخيص نورد هنا رأي أحد الباحثين" أحمد التوفيق" الذي رصد خصائص ومميزات الاستغرافية المغربية الجامعية الناشئة فيما يلي:
-الاهتمام بالقضايا لا بمجرد سرد الأحداث السياسية وعدم الاقتصار على الوصف.
-النظر إلى الماضي لا في إطاره الزماني بل في إطاره المحلي سعيا إلى وضع قواعد يمكن أن نبني عليها تاريخا وطنيا حقيقا.
-تحويل الاهتمام عن الأحداث السياسية ذات البعد الوطني إلى الحركة الداخلية للقوى الاجتماعية أي الاهتمام بالعناصر التي كانت أساس الحياة السياسية والجماعات التي نشأت فيها قوة التغيير والاستمرار.
-تبني الجيل الجديد من المؤرخين لنماذج وتقنيات جديدة.
الحدود المغربية أقل ما يمكن من طلقات البنادق وأكثر ما يمكن من النشاطات الاقتصادية والسياسية.
جوانب من مسلسل التوسع الأجنبي
بمغرب القرن 19
مقدمة عامة:
تفيد عبارة تاريخ المغرب في القرن التاسع عشر الإحالة على مجموع الوقائع والتحولات التي شهدها المجتمع المغربي على امتداد الفترة الزمنية التي تبدأ باحتلال فرنسا للجزائر 1830 وتنتهي بتوقيع الحماية سنة 1912، ومدار هذه الوقائع ينتظم ضمن مستويات مسلسل التوسع الإمبريالي الأوربي الذي أخضع الكيان المغربي لضغط ممنهج اعتمد أساليب متنوعة ومتداخلة تجمع بين:
*الضربات العسكرية التي تستهدف إفقاد هذا الكيان وسائل دفاعه. وإفقاده كل ثقة بالنفس.
*المعاهدات التجارية اللامتكافئة باعتبارها تمثل أداة فعالة لتوطيد ركائز التغلغل الاقتصادي وتأمينه داخل المغرب.
*مواكبة هذه الضغوطات بالإقدام على الاقتطاع التدريجي لعناصر من السيادة المغربية.
وإذا كان المغرب قد تمكن من الحفاظ على استقلاله إلى نهاية القرن فمرد ذلك راجع لتنافس الدول الأوربية وتضارب سياستها إزاءه من جهة، وإلى سياسة المخزن في استغلال هذا التنافس لصيانة استقلال البلاد من جهة ثانية، لكن التدخل الأوربي نال في الواقع تدريجيا من قيمة هذا الاستقلال.
وقد كان من الطبيعي أن يولد هذا الضغط الأجنبي ردود فعل داخلية متباينة ومتفاوتة في طبيعتها وتوجهاتها من لدن القوى المؤطرة للمجتمع المغربي.
وعليه فإن دراسة مراحل التدخل الأوربي وأشكاله ونتائجه على حياة البلاد ومواقف القوى المختلفة تجاه المغرب وردود فعل المغرب وسياسته، كل هذا يشكل الموضوع الرئيس لتاريخ المغرب في القرن 19.
الوضعية إلى سنة 1830:
ظلت العلاقات بين المغرب وأوربا قائمة منذ العصور القديمة بحكم التقارب الجغرافي، واتسمت هذه العلاقات دوما بحركة مدها وجزرها، تتغير بتغير ميزان القوى وشروط الوضع الدولي والمتوسطي، فقد تكتسي طابعا توسعيا في حالة رجحان الكفة لأحد الطرفين. وقد تتخذ شكل مبادلات تجارية ودبلوماسية سليمة حينما يتكافأ وزن الطرفين.
وإذا كانت هذه العلاقات قد بدأت تفتر منذ السنوات الأولى من القرن التاسع عشر بسبب سياسة الاحتراز التي نهجها المولى سليمان، فليس معنى ذلك أن اهتمام الطرفين ببعضهما قد انقطع، بالعكس سيعرف مستوى العلاقات بعد هذا الفتور النسبي- تطورا سريعا تمثل في تكاثف حجم هذه العلاقات. تم ما ترتب عنه من تغييرات عميقة في الاقتصاد والمجتمع المغربيين، ولم تكن سياسة الانعزال التي سلكها المولى سليمان هي السبب الوحيد في هذا الفتور، بل إن ما يغفل عنه في غالب الأحيان هو أن صلة المغرب بالدول الأوربية في عهده كانت إلى حد بعيد رهينة بالوضع في أوربا نفسها. فأوربا المنشغلة بالصعوبات الداخلية الناجمة عن الثورة الفرنسية وحروب نابليون الطويلة (1792-1814) لم تعد تهتم بالمغرب. وقد تجلى هذا التراجع في ضآلة المبادلات وضعف التمثيل القنصلي الذي انحصر في طنجة وإغلاق عدة موانئ في وجه الأجانب، وقلة عدد الأوربيين المقيمين بالمغرب، ومنع المغاربة من الذهاب إلى أوربا. غير أن تولية المولى عبد الرحمان الحكم 1822 قد فتحت عهدا جديدا، فالمعاهدات الموقعة مع البرتغال سنة 1823 ومع انجلترا سنة 1824 ومع فرنسا وسردينيا سنة 1825 تظهر حسن استعداد السلطان. لكن الاحتياجات المالية وفكرة الجهاد أحيت من جديد حركة القرصنة، إلا أن ردود فعل القوى المعنية وظهور تفوقها البحري حول أنظار المغرب عن البحر وإعادته إلى اتباع سياسة العزلة. يقول الناصري في هذا الصدد "واعلم أن هذه الوقعة (بين الأساطيل المغربية والإسبانية بالعرائش) هي التي كانت سببا في إعراض السلطان عن الغزو في البحر والاعتناء به، لما أراد إحياء هذه السنة صادف إبان قيام شوكة الفرنج ووفور عددهم وأدواتهم البحرية وصار الغزو في البحر يثير الخصومة " الجـزء 9 ص 24 – 25.
غير أن مثل هذه السياسة (العزلة) لم تعد ممكنة، ذلك أن جملة من العوامل قوت من اهتمام أوربا بالمغرب. وهو اهتمام ناتج عن الأهمية التي تكتسيها القضايا المتوسطية في العلاقات السياسية بين القوى الكبرى.
الانتكاسات العسكرية:
إن الاحتلال الفرنسي للجزائر قد أخل بالتوازن في حوض البحر المتوسط وهدد وضعية بريطانيا العظمى. كما مثل تهديدا مباشرا للمغرب باعتباره أخطر ما واجهته البلاد بعد ثماني سنوات من تولية السلطان مولاي عبد الرحمان. ذلك أن هذا الاحتلال قد أدى إلى تطويق المغرب وعزله عن آفاقه الطبيعية والتاريخية. وجعل واحدة من أبرز القوى الاستعمارية في القرن 19 جار مباشرا له.
الشيء الذي جعل أمنه واستقلاله عرضة لأخطار محدقة حيث بدا واضحا أن احتلال الجزائر لم يكن سوى مرحلة أو خطوة في أفق إتمام السيطرة الفرنسية على مجموع شمال إفريقيا. لذا كان من المتوقع أن يحدث نزاع بين الفرنسيين والمغاربة خصوصا بعد المساعدات التي قدمها المغرب للأمير عبد القادر الذي كان يتزعم مقاومة الغزو الفرنسي لبلاده. فالسلطان المولى عبد الرحمان لم يستطع أن يتجاهل نداء سكان تلمسان، ولا أن يرفض دعمه لعبد القادر، ولا أن يبقى مكتوف الأيدي أمام غارات القوات الفرنسية على المغرب الشرقي، مما سبب في أول مواجهة عسكرية مباشرة منذ معركة وادي المخازن، حيث تمكنت قوات المارشال"بيجو" من سحق الجيش المغربي بقيادة سيدي محمد ابن السلطان في معركة لم تستغرق أكثر من أربع ساعات (28 رجب 1260 هـ/ 14 غشت 1944) وأعقبها قصف الصويرة بعد أن كانت طنجة قد تعرضت لقصف مماثل قبل معركة إيسلي بأيام قليلة (8 غشت) بقبول السلطان صلحا(اتفاقية طنجة 10 مارس 1944) بمقتضاه يتعهد بعدم مساندة الأمير عبد القادر وطرده من التراب المغربي. وتم تركيز هذا الصلح بعقد معاهدة للامغنية (18 مارس 1843)التي تعين الحدود بين المغرب والجزائر. وجاءت بنودها غامضة لأغراض استعمارية.
*لقد كانت هزيمة إيسلي حدثا تاريخيا بارزا باعتباره دشن مرحلة جديدة في تاريخ المغرب الأقصى.
*وقعة إيسلي لم تكن في الواقع موجهة فقط من قبل فرنسا ولكنها موجهة باسم سائر الدول التي كانت تعاني من صمود المغرب.
*وضعت الرصيد المعنوي للمغرب محط التشكك وفتحت المجال للأطماع الاستعمارية في البلاد.
*كانت معركة مشؤومة هدت كيان الدولة المغربية وشمتت فيها أعدائها، وأبانت عن مدى ضعف المؤسسة العسكرية وضعف جيشها المدافع عن حوزتها وعن عدم استعداده لخوض غمار حرب ضد دولة أوربية حديثة هي فرنسا.
وإذا كانت فرنسا قد دشنت سياستها العدوانية ضد المغرب بمعركة إيسلي فلا غرابة أن نرى إسبانيا التي كانت تحتل سبتة ومليلية وجزر كبدانة أن تحاول الظهور في الميدان لتثبيت وجودها في المنطقة. ولتؤكد للمغرب وللدول الأوربية قدراتها وإمكانياتها حتى تفرض هذا الوجود.
وهكذا لم تمض بضع سنوات على هزيمة إيسلي وبالذات في آخر سنة من حكم السلطان عبد الرحمان حتى نشهد إسبانيا تتذرع بحادث حدود سبتة لتشهر الحرب على المغرب. فقد عمد الجيش االاسباني بسبتة إلى بناء قلعة حربية حول المدينة بالحجر والطين بدلا من الخشب كما كانت العادة المتفق عليها، مما أثار احتجاج قبائل أنجرة المجاورة للبناء الجديد، فتصدت للبناء وهدمته ونجست الراية التي نصبت عليه حسب ادعاء حكومة مدريد، عندئذ انتهزت الحكومة الإسبانية الفرصة وأمرت حاميتها المعسكرة في سبتة بالتوغل داخل التراب المغربي لمعاقبة قبيلة أنجرة انتقاما للشرف الإسباني. فقابل الانجربون القوة بالقوة، ودارت بين الطرفين معارك تلتها من إسبانيا مطالب مشتطة رفضها المغرب(إعدام 12 شخص من أنجرة اعتبروا مسؤولين عن الحادث- الاعتراف لإسبانيا بالحق في القيام بكل ما تراه لازما لسلامة مدينة سبتة)، ولم تفض جولة المحادثات الدبلوماسية ولا وساطة إنجلتر إلى حل سلمي. فانقطعت المفاوضات وأعلنت إسبانيا الحرب على المغرب (22 أكتوبر 1859) المعروفة بحرب تطوان.
وبعد أربعة شهور من المعارك تم احتلال تطوان فطلب السلطان حينئذ الصلح، تم الاتفاق على شروطه الأساسية في 25 مارس 1860، وبتاريخ 26 أبريل 1860 أمضى الطرفان المعاهدة النهائية والتي نصت على توسيع رقعة الاحتلال الإسباني في سبتة ومليلية. والتنازل لها عن حق الصيد في المياه المغربية الجنوبية، والتزم المغرب بعقده معاهدة تجارية مع إسبانيا والترخيص لها بإنشاء بعثة قتصلية لها بمدينة فاس. كما نصت على فتح الباب للمبشرين الإسبان على أن أقسى شروطها هي تأدية المغرب لتعويضات حربية باهضة سيضطر إلى الاستدانة من إنجلتر لتسديد نصفها في حين أن النصف الآخر سيقتطع من مداخيله الجمركية طيلة ربع قرن.
وترتبت عن هذه الهزيمة أزمة مالية خانقة أدت إلى إفراغ الخزينة المغربية كما اعترف بذلك السلطان محمد بن عبد الرحمان نفسه في أوائل سنة 1861 بعد تأدية أول دفعة من دفعات الغرامة الحربية"...دفعنا ما كان عندنا ببيت المال هنا بفاس وما كان ببيت مال مراكش حتى لم يبق تحت يدنا إلا ما نقضي به حاجة مع الجيش إذ لا يمكن صبرهم على الخدمة والجوع والعرى ومع ذلك فهو قليل لا يقنعون به".
ولقد أبرز المؤرخ جرمان عياش في دراسة قيمة أهم جوانب هذه الأزمة وذيولها. لقد كانت حرب تطوان أسوأ أثرا مما قبلها في تعزيز النفوذ الاستعماري في البلاد، وإفقادها ما بقي لها من الاعتبار، وأحدثت هزة عنيفة في الشعور العام لدى المغاربة، يقول الناصري موضحا عواقب هذا الحدث"...ووقعة تطاوين هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب واستطال النصارى بها وانكسر المسلمون انكسار لم يعهد لهم مثله وكثرت الحمايات ونشأ عن ذلك ضرر كبير..".
وخلاصة القول أن هزيمتي إيسلي وتطوان قد سجلتا بداية مسلسل من النكسات اللاحقة زعزعت المعطيات السياسية والعسكرية والاقتصادية ومهدت الطريق للاستعمار.
المعاهدات التجارية:
إضافة إلى الضغط العسكري، بدأ مسلسل الضغط الاقتصادي الأوربي بإرغام المخزن على التوقيع على اتفاقيات غير متكافئة تستهدف إرساء الدعائم الثابتة للتسرب الأوربي. وإلى حدود بداية القرن التاسع عشر كانت جميع معاهدات السلم والصداقة المبرمة من طرف المغرب مع قوى مختلفة تقضي التعامل بالمثل بين دول متساوية ذات سيادة. ولم يكن بها أي مساس بحرية تصرف المخزن في الشؤون الاقتصادية، بل كان المخزن حريصا على أن لا يضيع من قبضته زمام المبادرة في شؤون التجارة مع الأوربيين وذلك بالزيادة والنقصان في الرسوم الجمركية حسبما تقضيه مصلحة البلاد، إلا أنه مع بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر سيتغير مضمون هذه الاتفاقيات، وهي الحقبةالتي تميزت بظهور النظريات التوسعية في أوربا، والدعوة إلى السيطرة والاستيلاء تلبية للضرورات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت ملحة في عدة دول أوربية.
إن هذه الاتفاقيات بما نصت عليه من امتيازات باهضة للتجار الأجانب قد وجهت ضربة عنيفة لاختصاصات السلطان وأضعفت قدرة المخزن على الصمود أمام الغزو الامبريالي بأن حرمته من حرية التشريع الجمركي. ولقد سمح بند" الأمة ذات الأفضلية" لجميع الدول التي عقدت معاهدات مع المغرب بالتمتع بما نصت عليه الاتفاقية الإنجليزية المغربية بتاريخ 9 ديسمبر 1856.
*اتفاقية 1856
منذ سنة 1846 اجتهدت بريطانيا للحصول على تغيير في الاتفاقيات الموجودة فقد كان يهمها أن تزيد من مبادلاتها مع المغرب، لكن مع التأكيد على نفوذها في البلاد، فحجم المبادلات وعدد أفراد الجالية عاملان مهمان في اللعبة الدبلوماسية للقوى الاستعمارية، وكان يهم انجلترا كذلك أن تعوض بالزيادة في المبادلات البحرية تصاعد النفوذ الذي يمكن أن تحصل عليه فرنسا باحتلالها للجزائر، وبالفعل فالمغرب في هذه الفترة كان موضوع مجهودين متعارضين يهدفان إدخاله في تيار أوسع للمبادلات، والمجهود البريطاني يعارضه مجهود تجار منطقة وهران الذين يريدون جعل الجزائر مستودعا للمنتوجات الفرنسية الموجهة إلى المغرب، ويطالبون بإزالة الحواجز على التجارة البرية.
والمخزن الذي كان واعيا بأخطار إطلاق حرية التجارة الخارجية وبالمشاكل التي يمكن أن تنجم عن ذلك في داخل البلاد، والتعقيدات التي قد تنشأ مع القوى الأجنبية إذا منح امتيازا لأحدهما، قد صمد لمدة طويلة، لكن لم يكن المخزن بمقدوره سوى الاعتماد على الحنكة الدبلوماسية. وذلك بمحاولة اللعب على الصراعات بين القوى المختلفة، وطالما بقيت هذه القوى متنافسة فإن مولاي عبد الرحمان استطاع التملص من المفاوضات. لكن ابتداء من سنة 1853 وعندما فتحت إسبانيا وفرنسا دعمها لإنجلترا وجد السلطان عبد الرحمان نفسه أمام حلف يضم كل أوربا، وأصبحت كل إمكانيات الصمود مستحيلة، والمفاوضات التي بدأت في مارس 1853 انتهت بتوقيع السلطان في دجنبر 1856 على اتفاقية عامة من 38 فصل ألحقت بها اتفاقية للتجارة والملاحة، وقد حصلت إنجلترا على عدة امتيازات. ذلك أن الاتفاقية الملحقة تقيم الحرية المطلقة للمبادلات، وتلغي معظم الاحتكارات. كما تم إخضاع حق إقامة الحواجز على صادرات الحبوب لإعلام مسبق، وتقيم حقوقا رسوما جمركية بنسبة 10% من قيمة المنتوج عند الاستيراد. كما اعترفت للرعايا البريطانيين بحق الملكية وأعفتهم من جميع الضرائب والرسوم الجمركية، وفي ميدان القضاء تم الاتفاق على خضوعهم لقوانيين بلادهم. فالحالات التي تهم فقط رعايا بريطانيين تكون من اختصاص قتصلهم، مما يعني أن القضايا أصبحت تسحب من القضاء المحلي لفائدة القضاء القنصلي.
لقد شكل توقيع هذه المعاهدة مسا خطيرا بالبلاد، ذلك أن مراقبة التدخل الأوربي أفلتت من يد المخزن، ففي صراعه ضد الإمبريالية الأوربية فقد المغرب واحدا من أهم أسلحته ألا وهو التشريع الجمركي، كما تخلى عن حقوقه القضائية تجاه الأوربيين وعن جزء من رعاياه.
والامتيازات التي حصل عليها الأوربيون مقترنة بتفوق تقنياتهم وأهمية رؤوس الأموال التي يتوفرون عليها ستسمح لهم بالاستحواذ على معظم التجارة البحرية وجعل المغاربة وسطاء فقط، كما أن الاتفاقية تكرس أولوية النفوذ البريطاني بالمغرب، وتشير إلى نجاح التدخل الأجنبي في المغرب، وانضمام بلجيكا وسردينيا والبرتغال والبلدان المنخفضة إليها يجعل منها ميثاقا يحدد العلاقات بين المغرب وأوربا. بيد أن إسبانيا وفرنسا قد اعتبرتا المعاهدة غير كافية لأنها تتضمن رسوما مرتفعة على الصادرات، ولا تعطي أية ضمانات للمحميين، لذلك أعلنتا تشبتهما باتفاقياتهما مع المغرب مع الاستفادة مما ورد في المعاهدة الجديدة.
لقد أخلت معاهدة 1856 بالتوازن لصالح بريطانيا وبالتالي ساهمت في إذكاء النزاعات بين القوى الثلاث المهتمة بالمغرب ودفعت إسبانيا وفرنسا للمطالبة بامتيازات جديدة تفرز الوضع لصالحهما.
*اتفاقية 1861 مع إسبانيا
لقد كان من شروط الصلح مع إسبانيا إثر حرب تطوان إلزام المغرب بتوقيع معاهدة تجارية مع إسبانيا، وفعلا أمضيت هذه المعاهدة في 20 نونبر 1861 متضمنة 60 فصلا، وتتيح هذه المعاهدة حق الملكية العقارية للرعايا الإسبان، وتفتح أمامهم موانئ المغرب ومصايده الساحلية وتحدد حقوق التصدير، وتؤكد حق الحماية الإسبانية للرعايا المغاربة.
*اتفاقية 1863 مع فرنسا
إن التحفظات التي أبدتها فرنسا تجاه معاهدة 1856 وخصوصا فيما يتعلق بمشكلة الحماية القنصلية تفسر جزئيا طلبها بإبرام اتفاقية جديدة، لكن يدخل في الاعتبار أيضا حاجة رجال الصناعة للتزود بطريقة أكثر سهولة بالصوف من المغرب في وقت ندرت فيه هذه المدة وارتفع أثمان ألياف النسيج الأخرى، وفي الوقت كذلك الذي منع فيه السلطان الوسطاء الأوربيين من شراء الصوف من الأسواق بالداخل. إرضاءًَ للرأي العام الذي حمل مسؤولية ارتفاع أثمان الصوف للاستحواذ الأوربي. فاحتياجات السلطان محمد الرابع المالية، وروحه الإصلاحية، ورغبته في تسوية مشكلة الحماية القنصلية والصعوبات السياسية، كلها عوامل تفسر السرعة التي تمت بها المفاوضات حول اتفاقية يبدو أن أبعادها الحقيقية غابت عن المخزن. لقد كانت من أخطر المعاهدات التي وقعها المغرب مع أوربا في القرن الماضي. ويكفي أن نورد ما كتبه المؤرخ جون لوي مييج في كتابه "المغرب وأوربا" عنها للنتأكد من خطورتها " لم يسبق للمخزن أن أبرم وفقا ذا عواقب خطيرة كهذا، والسبب في ذلك يعود إلى غلط في تقدير الوقت ووزنه أكثر مما يرجع إلى خطورة الوضع السياسي...".
لقد حققت هذه الاتفاقية التي وقعها محمد بركاش مع الممثل الفرنسي بكلارد في غشت 1863، عدد المحميين في اثنين لكل تاجر وبكل ميناء. ويعفون من جميع الضرائب ولا يخضعون مطلقا للقضاء المغربي. كما تنص على منع توقيف المغاربة الذين يعملون في الاستغلاليات القروية بدون سبق إعلام القناصل. لقد كان الهدف من الاتفاقية هو وقف مساوئ الحماية والحد من التدخل الأوربي لكنها في الواقع حولت عن هدفها الأصلي لتصبح إحدى أسس هذا التدخل. وبإضافتها إلى الاتفاقيات الموقعة سابقا مع القوى الأخرى تكون قد فتحت أبواب المغرب على مصراعيها للانتشار الأوربي والاحتكارات الأوربية وامتيازاتها على حساب أهل البلاد، وظهير (4 يونيو 1864) الذي يعلن حرية التجارة داخل كل الدولة الشريفة لم يعمل إلا على إضفاء الشرعية على وضعية أصبح لا مفر منها بسبب أربعيين سنة من الضغوطات الأوربية.
لقد وضعت هذه الاتفاقيات الأسس القانونية لعلاقات المغرب مع أوربا، ومنذئذ أخذ نفوذ أوربا يتصاعد دون أن يستطيع المخزن إيقافه، وازدادت تبعية المغرب لأوربا أكثر فأكثر.
الحماية القنصلية
يعود أصل هذا النوع من الحماية إلى الامتيازات القضائية والجبائية التي كان بتمتع بها الرعايا الأجانب بموجب المعاهدات اللامتكافئة التي عقدها المغرب مع دولهم، وخاصة معاهدة 1863 مع فرنسا حيث نصت إحدى بنود هذه المعاهدة على توسيع الامتيازات الجبائية والحماية القنصلية لتشمل بعض الرعايا المغاربة يهودا ومسلمين من موظفين في القنصليات وسماسرة دور التجارة والشركاء الفلاحين، وهكذا أصبحت فئة المغاربة تتمتع بكثير من الامتيازات التي يحرم منها بقية المواطنين المغاربة لا تطالها قوانين البلاد وخارجة عن سلطة المخزن، وقد شكل هؤلاء بفضل الحصانة التي يتمتعون بها عملاء لتغلغل القوى الأجنبية. وكما أكد أحد الدارسين فلقد كانت هذه الحماية في الواقع إجحافا يقوم على تخليص رعايا مغاربة من سلطة عاهلهم بحيث أنهم يتحررون من الواجبات الضريبية مما ساهم في إضعاف مداخل الخزينة المغربية، ولا يتابعون قضائيا عن جرائمهم ونهكهم للحقوق مما أدى إلى تردي الأوضاع الأمنية في البلاد، وأصبحوا بيد الحامي معولا لدكّ صرح الدولة المغربية.
وقد كان تزايد عدد المحميين يتناسب مع عدد الأوربيين (انظر النص) فمن جهة عمدت الدول صاحبة الامتيازات خاصة فرنسا وإسبانيا إلى الإسراف في منح الحماية منتقية محمييها من أغنياء المغاربة وأكثرهم نفوذا في منح الحماية لتستفيد من مراكزهم وعلاقاتهم في تنمية تجارتها وتوسيع نفوذها، ومن جهة ثانية كان طالبي الحماية يبذلون من أجل الحصول عليها أموالا باهضة لأجل أن يحصلوا على أكثر منها بعد ذلك بطرق غير مشروعة، وقد وصلت الوضعية من التفاحش لدرجة أن بعض الأجانب فتحوا مكاتب للوساطة في الحصول على الحماية. وكانوا يتقاضون مقابل ذلك أموالا يتقاسمونها مع بعض القناصل، ولقد أعطى وزير إيطاليا المفوض في طنجة للحماية القنصلية أصدق وصف بقوله: "إنها مادة تجارية تباع لأكبر مغال في الثمن".
وإذا كان من المتعذر إحصاء عدد المحميين إحصاء دقيقا نتيجة التوسع والتزوير في منح بطاقات الحماية، فإنه تكفي الإشارة إلى بعض الحالات الدالة على أن معضلة الاحتماء بالأجنبي كانت تسدي لسياسة تخريب المغرب من الداخل كل التسهيلات، فممثل بريطانيا مد حمايته القنصلية على قرى بكاملها في المناطق التي يصطاد فيها، وممثل الولايات المتحدة الأمريكية كان له ثلاثمائة محي بطنجة، ولما كانت الحماية تشمل الشخص المحمي واهله وأقاربه وشركائه فإنها امتدت إلى عشرات الآلاف من الرعايا المغاربة إلى درجة جعلت دريموند هاي يقول" إن السلطان قد يفيق ذات صباح فيجد نفسه بدون رعايا". لقد ضرب توسع الحماية القنصلية سلطة المخزن الذي فقد سيطرته على جزء من رعاياه، وكمثال على هذا التجاوز أن أحد المحميين يدعى أحمد الدكالي تم توقيفه بسبب رفضه تسديد ديونه ولتزويره عقود ملكيته، أطلق سراحه أمام التدخل عن طريق التهديد الذي قام به القائم بأعمال إيطاليا، أما استفزاز المحميين اليهود – كما أوضح جرمان عياش –،فلا تعد ولا تحصى منها أن المدعو كوهن سب علانية محتسب مكناس، ومرة أخرى تعرض قاضي فاس وهو من كبار شخصيات الدولة للشتم من طرف يهودي محمي ومع ذلك لم يكن بالإمكان القيام بأي رد فعل إزاء هذه الاهانات اللهم إلا توجيه ملتمس إلى سفير فرنسا القادر وحده على زجر محمييه إن أراد. وتظهر هذه الأمثلة من بين عدة حالات أن المحمي يمكنه الوقوف في وجه المخزن مهما كانت أخطاؤه، وباستطاعته ارتكاب كل المظالم دون أن يخاف من العقاب، وكانت هذه الممارسات التعسفية تخلق موجة من السخط والتذمر وسط السكان، ومثار عدة اضطرابات وحوادث كثيرا ما كانت تنتهي بأداء المخزن تعويضات فادحة..
لقد شكل انتشار الحمايات وما تلاه من تدخل فاحش في شؤون البلاد الداخلية، وتضخيم لأدنى حدث وانتزاع التعويضات المالية الباهضة من المخزن أحد العوامل الأساسية التي أدت إلى اختلال التوازن داخل المجتمع المغربي واضمحلال الهياكل المخزنية وتعدد الاضطرابات واستحالة كل عمل للنهوض.
جهود المخزن:
لقد حاول السلطان المولى الحسن جاهدا منذ توليته حل مشكل الحماية القنصلية، وظل يرفض المفاوضة حول أية قضية ما لا تحد فوضى حماية الأشخاص باعتبارها أصل كل المشاكل التي كانت تثار بين المغرب والقوى الأجنبية، ففي ماي 1876 بعث سفارة برئاسة الحاج محمد الزيدي إلى بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا لجلب اهتمام الحكومات الأوربية إلى أضرار ومخاطر الحماية القنصلية ولم يحصل السفير المغربي على أي التزام محدد.
لقد دامت المحاولات الرامية لوضع حد للحماية قرابة خمس سنوات ابتدأت بطنجة (1877 – 1880) وانتهت بمدريد.
ففي 10 مارس 1877 قدم نائب السلطان محمد بركاش مذكرة إلى النواب الأوربيين في طنجة تعرض مآخذ المخزن على الحماية القنصلية، وتنص على الإصلاحات الواجب إدخالها، كما تطالب بعقد مؤتمر تدرس فيه مشكلة الحماية التي تسبب مضرة خطيرة للسيادة الترابية وللموارد المالية وللإدارة والقضاء في بلاد السلطان.
وقد بدأت المفاوضات بطنجة في 9 يوليوز واستمرت إلى 10 غشت 1877، وإذا كان الممثلون الأجانب قد وافقوا على الحد من بعض تجاوزات المحميين وعلى بعض ما جاء في مذكرة بركاش (موافاة المخزن بلائحة المحميين كل سنة ) فإنهم لم يتوصلوا إلى اتفاق بشأن وضع حدود دقيقة لحق منح الحماية.
وفي سنة 1879 اجتمع النواب الأجانب مرة أخرى في طنجة للنظر في وضع نظام خاص لحماية الأجانب وطالت المفاوضات دون نتيجة.
وفي فبراير من نفس السنة طلب بركاش من الممثلين الأوربين نتائج مفاوضاتهم لكنه لم يتوصل بجواب واضح في الموضوع فطالب بعقد اجتماعات أخرى للتوصل إلى اتفاق نهائي حول حماية الرعايا المغاربة وحول الضرائب التي يجب على المحميين دفعها والجوازات التي تمنح للمغاربة الذين يهاجرون إلى دول أخرى فيغيرون جنسيتهم ولا يعترفون بسلطة القانون المغربي بعد رجوعهم المغرب، ودامت هذه المحادثات ثلاثة أشهر انتهت إلى موافقة الهيأة القنصلية على بعض المطالب المغربية دون أن تعرف حيز التطبيق، وهكذا انتهت سنتان من الاجتماعات بالرفض الشامل تقريبا للمقترحات المغربية، وأخيرا اقترح دريموند هاي عقد مؤتمر دولي لتسوبه المشكل وللبث في بعض النقط المالية التي أثارها المغرب.
وقد انتهى هذا المؤتمر الذي انعقد بمدريد من 19 مايو 3 يوليوز 1880 وبمشاركة كل القوى التي تتوفر على ممثل لها في المغرب إلى نتائج مخالفة لما كان يتوقعه المخزن، إذ لم يزد أن جعل مشكل الحماية قانونا دوليا أصبح المغرب ملتزما به أمام الدول الأوربية، فبتوسيع المؤتمر مجال امتياز الحماية ليشمل مجموع القوى الأوربية قد عمل على ترسيخها عوض التخفيف من حدتها، وزيادة على هذا اعترف المؤتمر للأجانب يحق اقتناء ممتلكات عقارية بترخيص من المخزن. وقد شكل حق الامتلاك هذا باعتبار الحصانة التي تتمتع بها كل الأنشطة الأوربية بالمغرب تنازلا حقيقيا عن السيادة الترابية، وبمعالجة المؤتمر لقضايا غير الحماية الشخصية كالملكية، والضرائب، وحرية العقيدة قد وسع مجال تدخل القوى الأوربية بالمغرب مما يشكل سابقة خطيرة.وفعلا لم يعد المخزن حرا في تصرفاته ولا يمكنه إحداث أي تغيير بالبلاد دون موافقة القوى الأوربية. لقد سجل مؤتمر مدريد عمليا نهاية استقلال المغرب.
مواقف العلماء:
لقد كان من الطبيعي بالنظر لمكانة العلماء كأوصياء على مصالح الأمة وبحكم المسؤولية المنوطة بهم أن يحددوا مواقفهم حيال ظاهرة الحماية الشخصية، ويبرزوا عواقبها بالنسبة لمستقبل البلاد والعقيدة الإسلامية، ولقد ضمنت طائفة من العلماء مواقفها في عدة كتابات جاءت على شكل فتاوى وخطب ورسائل اختلفت آراء الدارسين في تقييمها بين قائل أنها تعبر عن وعي دقيق بالخطر المحدق بالبلاد وتحدد المسؤوليات وتعرض الحلول البديلة للخروج من الأزمة، وبين مؤكد على خلو هذه الكتابات من النظرة الواقعية للأحداث واكتفائها بالوعظ والإرشاد، وأن فئة العلماء التي لم تكن تملك استقلالية اتجاه المخزن وكانت غير قادرة على تقديم فكر ومشروع مجتمعي في مستوى التحولات التي عرفها المغرب آنذاك، وهذه الكتابات لا تعدو كونها تمثل نصوصا فرعية انبثقت من نص أصلي هو النص الإلهي.
لقد اجمعت كل هذه الكتابات على استنكار ظاهرة الحماية الشخصية وإدانة طائفة المحميين والمتعاملين مع الأوربيين مسلمين ويهود والدعوة إلى محاربتهم ومقاطعتهم،هذا وقد تفاوتت هذه التآليف في مستوى تحاليلها للأسباب التي أدت إلى نشوء معضلة الاحتماء بالأجنبي ورصدها للأضرار المادية والمعنوية الناتجة عنها وكيفية سبل مناهضتها.
وإذا أخذنا رسالة العربي المشرفي كنموذج لهذه الكتابات نجده بعدتنديده بطائفة المحميين وإبراز زيف ادعاءاتهم، يتساءل عن حكم الشرع في حق هؤلاء قائلا" فهل يكون المحتمي بالحماية على هذه الحالة مسلما عاصيا أو خرج عن دينه بالكلية وللإمام أن يحكم فيه باجتهاد..."ويكتفي المشرفي بالجواب على السؤال المطروح بتوجيه النصح إلى كل مسلم بأن واجبه هو مقاطعة هؤلاء المحميين مقاطعة نهائية لأنه يرى أنها السبيل الوحيد للحد من انتشار هذه الظاهرة مؤكدا على أن تهاون رجال السلطة في اتخاذ تدابير تأديبية ضد المحميين يشجع لا محالة رعايا آخرين على اقتفاء أثرهم. وأن الأمر سيأخذ أبعاد الكارثة لأن الشك بدأ يتسرب إلى عقول العامة حيث ينظرون إلى وضعية أصحاب الحمايات ويقارنونها بوضعيتهم فيتصورون أن دين الكفار أحسن من دينهم، لأن هذا المنكر – وهو التعلق بالعدو- من أعظم المفاسد في الدين يتعين فيها الزجر والتغليط... وحيث لم يكفهم من له الكلمة من أهل الحل والعقد زادهم ذلك غلطة وفضاضة واتسع الخرق على الواقع وعظمت المصيبة وفسد اعتقاد العامة حتى ظنوا أن ذلك الدين الفاسد هو الدين الحق وأساءوا الظن بدين الإسلام والعياذ بالله.
وإذا كانت حملة العلماء قد اشتدت وتوالت صيحات الإنكار والتنديد بموازاة استشراء عدوى الحماية وتفاقمها، فإن هذه الكتابات كما لاحظ العروي في تحليله لنصوصها ظلت تعتمد نفس الخطاب والمقاييس كما أنها لم تذهب إلى درجة الإقرار صراحة بتكفير المحميين والمطالبة بعقابهم كمرتدين.
لقد ظلت هذه الكتابات إلى غاية نهايتها مكتفية بالتركيز على الجانب الديني لظاهرة الحماية مغفلة أبعادها السوسيو سياسية، فضلا عن أن مصادر المرحلة لا تسعف الباحث في معرفة ما إذا كان لهذه الكتابات من دور وأثر فاعل في مواجهة الظاهرة.
Pمن بين هذه الكتابات نذكر:"هداية الضال المشتغل بالقيل والـقال.-"للكتاني
P الـعربي المشرفي" "الرسالة في أهـل البسبور الحـثالة" مخطوطة.
Pمحمد إبراهيم الساعي"سؤال كشف الـمستور عن حقيقة أهل البسبور"مخطوطة.
Pأبوجعفر الكتاني: " الدواهي المدهية للفرق المحمية " محظوظ
أبو الحسن الفهري الفاسي:"إيقاض السكارى المحتمين بالنصارى أو الويل والثبور لمن اتى بالبسبور".
المهدي الوزاني: رد على من آمن بجوار الاحتماء".
نص تاريخي:
لقد تكاثر عدد المحميين سنة عن سنة بنفس النسبة التي تكاثر بها عدد الأوربيين في المغرب، لقد كانت القنصليات تقرر بين الفينة والأخرى إلغاء الحمايات الممنوحة تعسفا، فتتم مراجعة اللوائح، وتحذف الأسماء المشبوه في أمرها. لكن ما أن تنتهي الحملة حتى تمتلء السجلات بأسماء جديدة، وكان هذا النظام مصدر ربح بالنسبة لبعض القناصلة اللئام أو المفلسين ووسيلة للتملص من أداء الضرائب بالنسبة للمغاربة الأعتياء. لقد لاحظ بابتوت Payton قنصل بريطانيا العظمى سنة1884 أن بيع الحماية كان أمرا مألوفا وعزل قنصل الولايات المتحدة من منصبه بسبب الرشوة واستغلال النفوذ، وبلغ صدى فضيحته العاصمة واشنطن، وعزل خلفه ريد ليوس لنفس الأسباب....وتبين من بحث أنجز سنة 1883أن أحد أعوان قنصلية فرنسا الذي كان يقيم في مدينة آسفي كان يعيش بما تذره عليه عملية الاتجار في الحماية، إذ لم يكن له من رأس المال سوى بطاقات الحماية التي كان يبيعها بالمزايدة في الأسواق الداخلية بعيدا عن الموانئ.
ويمكن سرد كثير من الحالات في جميع المدن، وبالنسبة لقنصليات جميع الدول. وكان إحصاء جميع المحميين في أواخر عهد مولاي الحسن أمرا مستحيلا، ذلك أن سجلات القنصليات لم تكن تشتمل إلا على المحميين الرسميين، لكن بعض الأرقام المؤكدة تبين الارتفاع المهول لأعداد المحميين، لقد لاحظ قنصل الولايات المتحدة في تقرير كتبه سنة 1888 أن عدد المغاربة الذين تحميهم بلاده يفوق 800 شخص عند وصوله إلى المغرب، وفي سنة 1887 رفض جميع سكان إحدى القرى وعددهم 300 أداء الضرائب للمخزن لأنهم كانوا يعتبرون أنفسهم محميين، لأنهم يحوشون الصيد لفائدة القنصل العام، وقد ساندهم هذا الأخير في رفضهم، وكان الترجمان اليهودي سمطون- الذي كان يعمل في نيابة القنصلية البرتغالية في مدينة الجديدة- يحمي ثلاثمائة شخص، وفي سنة 1886 كان عدد المحميين المسجلين في سجلات الحماية الرسمية الفرنسية 336 مغربيا، وفي مدينة آسفي حيث يقطن فرنسي واحد كان عدد المحميين 30 فردا في يونيو 1890، وفي تطوان كان عدد المحميين اليهود 300 شخص سنة 1863...وكانت الحماية تشمل رب الأسرة وجميع أفراد عائلته، وتمتد عمليا إلى شركائه وعماله في مهنته، وهكذا تملص من سلطة المخزن في أواخر القرن التاسع عشر عشرات الآلاف من المغاربة، ومن أغناهم وأكثرهم نفوذا...
وقد قال ممثل فرنسا في الموضوع" قضية الحماية هذه...سبب عدد من التعسفات قد تؤدي إلى خراب كيان المملكة" وما له لا يقول أن معظمها قد خرب فعلا، وذلك ما أوضحه دونالد ماكيتري سنة 1887، إذ عرض للتعسفات الفاحشة التي نتجت عن الحماية، كما أثبت أن عواقب هذا النظام كره عامة المغاربة للأوربيين، نظرا لما يلقاه هؤلاء العامة من عسف المحميين، كان من عواقبه أيضا تصميم المخزن على رفض الإصلاحات وحرمانه من الوسائل المالية ومن السلطة الضرورية لإنجاز هذه الإصلاحات...وقد أجمعت كل التقارير والصحف على تأكيد صحة هذه الإخبار، ويمكن أن يضاف إليها عدة تفاصيل، بعضها أبشع من بعض، لكن لا جدال في صحتها.
وقد بدل مولاي الحسن وسعه مرارا لإلغاء حق الحماية، وطلب من العلماء دراسة الوسائل التي ترغب الدول في إهمال هذا الحق، ألـح هو كذلك على ممثلي هذه الدول، لكن ذلك النظام كان أرسخ من أن يُلغي، إذ كانت الأعداد العديدة من الناس تعيش منه، لقد كان هذا النظام من أهم العوامل التي أدت إلى تفكيك هياكل المخزن، كما مثل أهم عائق أمام أي إصلاح من الإصلاحات الناجعة، وقد قال كانوفاديل كاستيو سنة 1881، "أذا لم يحد هذا التعسف الدولي –الذي هو الحماية- فقد يفيق سلطان المغرب ذات صباح، ولا يجد له رعايا، إذ تكون دول صديقة قد سلبتهم منه"، وكأن ما تكهن به قد أخذ يتحقق...و كان لهذا النظام عواقب سياسية خطيرة.
ملامح من التحولات الاقتصادية بمغرب
القرن 19
لم يشهد الاقتصاد المغربي خلال القرن 19 سوى تطورا ضئيلا في بنيته، وبالمقابل تعرض لاختلالات خطيرة بسبب التدخل الأوربي:
الفلاحة والحرف
ظلت الفلاحة النشاط الأساس لأغلبية السكان، إلا أن الاستمرار في اعتماد الوسائل العتيقة لم يسمح بتوفير فائض إلا في سنوات المحاصيل الجيدة، بينما ظلت البلاد عرضة لمجاعات دورية نتيجة عدم انتظام أحوال المناخ. وإذا كانت بعض المناطق بدأت تعرف بداية التمليك وتركيز الملكية، فعلى العموم تبقى معظم الأراضي جماعية والملكية المتوسطة هي القاعدة. ولا يتم الاستغلال المباشر إلا في الملكيات الصغيرة وما أن يحصل ملاكا على أراضي كافية حتى يلجأ إلى الخماس، أما كراء الأراضي فكان غالبا ما يتم مقابل جزء من المحصول.
تشكل الحبوب الزراعة الرئيسية، وقد تمكن التسرب الأوربي في المناطق الساحلية من تنمية بعض المزروعات: الخضروات، الفواكه، البواكر، العنب، القطاني كما تحسنت تربية الأغنام من أجل توفير مادة الصوف والأبقار من اجل الحليب واللحوم، وقد ظل ترويج المنتجات الفلاحية متواضعا مما يفسر تفاوت الأثمان الفلاحية من منطقة إلى أخرى.
أما في المدن، فقد شكلت الحرف النشاط الصناعي الرئيس، فالحرف المنـزلية تنتج داخل المحترفات (Les ateliers)، عددا من البضائع الجارية الاستعمال (المطروزات الزرابي،ماء الورد...) أما الحرف ذات الصبغة التجارية فإنها تنتج كل البضائع ذات الاستعمال المعتاد(الجلود، الأخشاب، مواد البناء، المواد الغذائية، الملابس...)يصنع بعضها في معامل حقيقية مسيرة من طرف رب المعمل الذي يرأس عمالا ويدفع إنتاجه إلى تجار الجملة أو نصف الجملة، وبعض السلع التي يصنعها حرفييون يقومون ببيعها داخل دكاكينهم، ويتجمع هؤلاء في أحياء حسب اختصاصهم، ويكونون حنطات يسهر عليها أمين ويراقبها محتسب. وقد تضررت الحرف كثيرا من التدخل الأوربي بسبب منافسة المنتوجات المستوردة للمنتوجات المحلية.
ورغم ضعف وسائل المواصلات والنقل الطرقي وارتفاع كلفته، فإن حركة تجارية نشيطة أنعشت مختلف مناطق المغرب. وإذا كان نمو التجارة البحرية قد أدى إلى تراجع الدور التجاري للمدن الداخلية لفائدة المدن الساحلية فإن المبادلات في البوادي احتفظت بكثافتها، فقد استمر القرويون يتوافدون بانتظام على متاجر المدن وأسواق البوادي المزدهرة خصوصا على طول المسالك وعند اتصال المناطق المتكاملة.
تطور التجارة الخارجية
ظهرت عواقب التدخل الأوربي بكل وضوح في تطور المبادلات الخارجية، فالإحصائيات تدل على تقدم سريع، إذ تضاعفت قيمة المبادلات أكثر من عشر مرات بين سنة 1830 ونهاية القرن. والواقع أن هذه المبادلات ضعيفة إذ ما قورنت بالمبادلات الجزائرية. وحتى بالمبادلات التونسية، لكن تقدمها يسمح بقياس أهمية انفتاح المغرب من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا التقدم في المبادلات لم يكن متواصلا بل سار في منحى غبر منظم نقرأ فيه تذبذبات الاقتصاد المغربي ونتبين منه في آن واحد مراحل التدخل الأوربي، وعلى العموم فإن التراجع في نسبة المبادلات يوافق سنوات المحاصيل السيئة ونقص الأقوات التي طبعت باستمرار الحياة المغربية في القرن 19، والتي أدت في نفس الوقت إلى نقصان المادة الموجهة للتصدير وإلى انخفاض القوة الشرائية للسكان، بينما التقدم في نسبة الرواج والمبادلات التجارية يوافق سنوات المحاصيل الجيدة والوفيرة.
في إطار هذه الحركة الكلية يبدو إيقاع توسع الواردات أكثر انتظاما مما هو الشأن في الصادرات فكل فترة تراجع يكون انعكاسها على الصادرات أعمق من تأثيرها على الواردات. وهكذا فإن أزمة 1856 – 1859 أحدثت نقصانا في الصادرات بنسة(106%) بينما لم تبلغ هذه النسبة في الواردت سوى (80%). نفس الأمر حصل خلال أزمة 1874 – 1884 حيث بلغت نسبة التراجع (45%)و (28%). وإلى حدود سنة 1878 فإن فترات الانتعاش كانت أفيد للصادرات منها للواردات. ولكن منذ هذا التاريخ انقلب الاتجاه ونقص الفرق تدريجيا إلى أن أصيب الميزان التجاري بعجز مستمر ابتداء من سنة 1892.
هذا التطور المضر بالاقتصاد المغربي هو انعكاس للتغيرات العميقة الحاصلة في ظروف التجارة البحرية المغربية منذ منتصف القرن 19، فقد استفادت تجارة الاستيراد من تحديد رسوم جمركية ضعيفة عـند الاستيراد(10% من القيمة)، ومن تخفيض أثمان السلع الأجنبية وانخفاض أثمان النقل البحري. وهكذا أمكن للمنتوجات الأجنبية أن تفرض نفسها دون عراقيل إلا تلك التي تأتي من ظروف السوق الداخلية على العكس فإن إبقاء رسوم خصوصية غالبا مرتفعة القيمة عن الصادرات وظهور ممنوين جدد علاوة على الفرق المتزايد باستمرار بين الأثمان المغربية وبين أثمان النقل البحري، كلها عوامل حدث أكثر فأكثر من خروج المنتوجات المغربية.
وقد احتلت المنتوجات القطنية طوال القرن 19 الرتبة الأولى بين الواردات بنسبة تصل إلى 50% أحيانا من المشتريات المغربية، بينما مثل السكر والشاي أقل من 10 سنة 1830 وحوالي الثلث في نهاية القرن. ويظهر ارتفاع مشتريات المغرب من هذه المواد في فترات الأزمات الأهمية التي أصبحت تحتلها في التغذية والحياة اليومية للسكان. وفي تهاية القرن فرضت منتوجات أخرى نفسها (ملابس- شموع- مواد البناء- بترول الأدوات القاطعة...سلع مصنوعة على نموذج المنتوجات الحرفية).
كما تغير اتجاه المبادلات فقد تقهقرت السيطرة الانجليزية تدريجيا، وانتقل نصيب بريطانيا في التجارة المغربية من 30% سنة 1886 إلى 50% سنة 1890و29% سنة 1905 وهي عواقب مباشرة لإبرام الاتفاق الفرنسي البريطاني، وكانت فرنسا وألمانيا هما الدولتان المستفيدتان من هذا التقهقر. لكن التغيرات الأكثر عمقا حدثت في تيار المبادلات إذ أدى تحول المغرب نحو المحيط الأطلسي إلى تدهور التيارات البرية، وكانت التجارة الشرقية أول من تأثر بصدمة الظروف الجديدة. فرغم المجهودات التي بذلتها فرنسا وتجار منطقة وهران لإنعاش المبادلات البرية فإن هاته الأخيرة عرفت تدهورا لا يمكن علاجه. وقد نتج عن اضطرابات الحدود. وعن مناخية التجارة البحرية المحادية للساحل [المساحلة Cabotage] بين وهران وطنجة، وعن تحول قافلة الحج نحو البحر والتي تعتبر دعامة تقليدية للتجارة مع الشرق. على العكس احتفظت التجارة الصحراوية بأهميتها إلى حوالي 1875 بل أكثر من ذلك استعادت بعض نشاطها إلا أن هذا الازدهار كان قصير العمر، فقد مثل آخر نفس لتجارة مهددة بالاختناق إذ ساهمت مجموعة من العوامل في تدهورها ، ومنها مجهودات حكام السينغال لنقل التبادل التجاري نحو سان لوي منافسة مؤسسة رأس جوبي وواد الذهب، ثم اتساع الهوة بين التجارة البرية وتجارة القوافل، ثم منافسة الأسواق الجديدة، وقد أصيبت التجارة عبر الصحراء بضربة قاضية على أثر احتلال الصحراء وخصوصا استيلاء فرنسا على تومبوكتو سنة 1809. ويتضح هذا التدهور جيدا من خلال تجارة ريش النعام بالصويرة، فبعد أن كان 1.2000.000سنة 1863 انخفض إلى 280.000 في سنة 1883 و 85.000 سنة1893 ليختفي نهائيا من تجارة المدينة سنة 1895.
كما أن الظروف التجارية الجديدة غيرت كثيرا من تيارات التجارة البحرية التقليدية. فموانئ المصبات (الرباط، العرائش، تطوان) التي كانت تهتم بها السفن الشراعية في الماضي لما توفر لها من مخابئ ضد العواصف. هجرت تدريجيا كلما ازداد نجاح الملاحة التجارية، وتزايدت حمولة السفن لفقر التيارات التجارية البرية والجنوبية مما أثر على الموانئ التي كانت تنتهي إليها هذه التيارات، وهو ما يفسر تدهور مينائي الصويرة وتطوان. وقد احتلت طنجة جزئيا مكانة تطوان، وتمكنت بفضل موقعها على مدخل المضيق، ومرفئها الواسع والمحمي. ووجود جالية أوربية كثيرة العدد وهيئة قنصلية، علاوة على تعدد الاتصالات البحرية والبريدية وإعداد الطريق التي تربطها بفاس وإبحار الحجاج منها. كلها عوامل ساهمت في اتساع مجال نفوذ طنجة الذي كان في البداية محدودا. ووصل على حساب تقلص تطوان إلى سبو وفاس، ومنها إلى المغرب الأوسط والجنوبي، على أن توسعها كان ينافس توسع الدار البيضاء التي تنازعها المكانة الأولى، وقد ارتبط ازدهار هذه الأخيرة باستئناف تصدير الحبوب والصوف ابتداء من سنة1830. وخاصة بين سنتي 1852 – 1857. كما استفادت من وجود منطقة خلفية غنية، وتعددت وظائفها تدريجيا، فمجالها التجاري اكتسح مجال الرباط ومجال الجديدة وحتى الصويرة. وانتهى في توسعه إلى أن ضم فاس ومكناس وتادلة وأم الربيع والحوز بالجنوب. كما انتزعت الدار البيضاء من جبل طارق دور المستودع الذي كان يقوم به بالنسبة للتجارة المغربية، وغداة الحرب الإسبانية المغربية أعطيت للمدينة إدارة مشغلة حيث استقر بها كل ممثلي البعثات الدينية، واعتبرتها الشركات الكبرى مركزها التجاري الأساسي. وقد ارتفعت مساهمتها في مجموع التجارة المغربية من أقل من 5% سنة 1844 إلى ما يقرب حوالي الربع سنة 1890.
وقد أدى تطور التيارات التجارية على هذا النحو إلى تحول عميق للجغرافية الاقتصادية للبلاد. وهذا أصل عدم التوازن الحالي بين المغرب الأطلنتي والمغرب الداخلي، فكلما كانت المناطق الداخلية والجنوبية على الخصوص تتراجع وتنفرد كلما ضعف التيار التجاري الذي كان ينعشها. وبالمقابل كانت المناطق الداخلية والجنوبية على الخصوص تتراجع وتنفرد كلما ضعف التيار التجاري الذي كان ينعشها. وبالمقابل كانت المناطق الساحلية والوسطى على الخصوص تتطور باتصالها مع العالم الخارجي. وبفضل حيوية جديدة ارتفع نصيبها في الاقتصاد المغربي، وشيئا فشيئا أصبح المغرب يعيش على إيقاع ساحله الأطلنتي.
الاستشارات السلطانية خلال القرن التاسع عشر في الميدان المالي والتجاري والعسكري.
تمخض عن التدخل الأوربي في مغرب القرن التاسع عشر بروز قضايا مستحدثة لم يكن للمغاربة عهد بها. فكان لا بد للعلماء من البث فيها. باعتبارهم يشكلون الطليعة العالمة بنصوص الشرع. يعبرون دائما عن جانب المشروعية. والسلطان في الفكر الإسلامي يستمد قوته من الشرع، وحتى إذ لم يرض على فتاوي بعض الفقهاء يلجأ إلى فتاوى مضادة من هيئة فقهية أقل تصلبا. وقد ألفت عدة كتب ردا وجوابا على استشارات سلطانية في مجالات مختلفة (سياسية – عسكرية- مالية – تجارية).وسنكتفي بالتعريف ببعض النماذج من هذه الاستشارات ومنها:
الاستشارات السلطانية في الميدان المالي
توالت سلسلة من الأزمات على المغرب بعد حرب تطوان، كانت أولها وآخرها الأزمة المالية الناتجة عن معاهدة الصلح بين المغرب واسبانيا التي فرضت على المغرب دفع عشرين مليون ريال مقابل خروجها من تطوان.وما استولت عليه من أراضي بينها وبين سبتة. ولم يستطع بيت المال تسديد سوى الربع من هذه الغرامة. ويظهر حسب تعبير المؤرخ محمد داود أن هذه الأزمة المالية أوقعت الدوائر المخزنية في حيرة. فصارت تبحث يمينا ويسارا لعلها تجد مخرجا لها من تلك الأزمة وكمحاولة من السلطان لحل المشكل وجه استفتاء للعلماء في شأن فرضه معونة على الشعب لدفع مال الصلح.
استشارة السلطان محمد الرابع حول إحداث المعونة
واجهت الحكومة المغربية صعوبات وعراقيل لجمع المال المتفق عليه كأساس للصلح وتسديد الغرامة في وقتها المحدد. وكان السلطان يعلم ما يعتري بلاده من فوضى حيث كانت المدينة وحدها تخضع للسلطة في حين كانت البوادي والقبائل ترفض دفع الضرائب لذلك فكر السلطان في وسيلة تساعده للوصول إلى الشعب الذي سيساعده ماديا. فقام بعدة مشاورات في مقدمتها مشاورته لعمه العباس في رسالة جاء فيها" أما الإعانة التي أشرت بفرضها على تلك الإيالة فلا بد من المفاوضات مع اهل الدين من أهلها في القدر الذي يليق أن يفرض على كل قبيلة. فتفاوض مع من تعرفه دينا، عارفا بأحوال قبائل تلك الجهة وأعلمنا بما أشار به على سبيل التفصيل لنكتب لهم به".
إن حنكة السلطان السياسية دفعته لإرجاع المسألة لأهل الدين لعلمه بما كان للعلماء من تأثير على العامة ولقدرتهم على تأويل النصوص الشرعية لخدمة ما يراه السلطان ملائما، وقد أمر السلطان الوزير الطيب بوعشرين بكتابة نص الاستشارة الذي أورده محمد داوود في تاريخه. حيث قال بوعشرين "الحمد لله عقدنا الصلح مع العدو الكافر بمشقة عظيمة على عشرين مليون من الريال. وليس تحت يدنا بمراكش حتى الربع". قام الوزير أولا بعرض المشكل المالي الناتج عن قضية الصلح وعجز بيت المال عن تسديد الديون. لينتقل في رسالته لما هو أهم . يقول في هذا الصدد" فما تقولون في المال الواقع عليه الصلح. هل يفرض على الرعية حاضرها وباديها أم لا. فإن قلتم بفرضه فما يفعل مع القبائل التي كلها أو جلها متعاص عن أداء ما هو أهون من هذا العدد. فإن قلتم بقتالهم قلنا لا بد من إعمال حركات...موقوف على ما يعطي للجيش ...ولا مال موجود...فإن قلتم بعدم الإقدام على قتالهم فهل يرتكب للقبض منهم وهو أولى من ذلك...من جعل شيء يعطى على ما يوتى به من سلع وغيرها للمدن...فإن قلتم بعدم فرضه قلنا لا نجد ما نعطيه للكافر وينحل حينئذ نظام الصلح...فإن قلتم لا بد من التحقق بفراغ بيت المال...قلنا أمناؤكم ينبؤنكم بأمره...فإن قلتم لا تقبض الإعانة إلا بعد قبض ما بذمم التجار قلت غاية ما عندهم نحو السبعمائة ألف مثقال"
يستشف من مضمون الرسالة الاستشارية أن المخزن كان ينتظر من الرعية مقاومة قويه للضريبة الجديدة: فقد كان بوعشرين ذكيا في أسلوب تقديم الرسالة حيث وضع كل الاحتمالات التي يمكن أن يسأل عنها العلماء وأجاب بما رآه مناسبا لصالح المخزن. كما اقترح الحل الذي رآه ملائما وهو فرض مكوس(ضرائب ) على السلع التي تدخل من أبواب المدن.
تباينت أجوبة العلماء في النازلة فمنهم من فـضل التملص من الجـواب و" كانوا يختفون إلى أن يجيب غيرهم. وبعضهم يترك بلده إلى غيره من المدن والقبائل فرارا من الجواب" وأهون منهم من كان يمضي جوابه إلى جواب عالم آخر كمحمد الفيلالي الذي أجاب في رسالة قال فيها" الحمد لله ...أما بعد..في جواب سؤال مولانا...ما أجاب به الفقيه العلامة أبو العباس سيدي أحمد المرنيسي..موافقا على ما تضمنته أجوبة حماة راية الإسلام" فالفيلالي لم يكلف نفسه حتى البحث في النصوص الشرعية عن وسيلة لتبرير أقواله والخروج برأي حاسم يقنع به نفسه على الأقل. وكان ضمن العلماء المستشارين من لا تأخذهم لومة لائم في إبداء رأيهم صراحة. وكان منهم الفقيه أحمد العراقي الذي بنى رفضه على أن الصلح بالمال الكثير الذي ليس ببيت المال إلا ربعه مع كون العدو طالبا للصلح غير مطلوب. ولا يجوز وينقص لما فيه من تهوين وإذهاب قوته" . أوضح العراقي عواقب الصلح بالمال بأن العدو سيجمع المال ويتقوى بها، وفي أية لحظة ينقض الصلح ليهجم على المغرب. وانتقد الجند المغربي وعدم تنظيمه.
علق على جواب العراقي. العالم البشير أفيلال التطواني بقوله" إفتاء العراقي كان وجيها لو كانت القوتين متساويتين. ولم يكن هذا ليخفى على العراقي. لكنه رغم ذلك أفتى بما رآه ملائما. وأهم من هذا أنه أولى برأيه دون تحيز للمخزن وطمع في أعطياته أو خوف منه". ولم يجب المخزن بقبول فرض المعونة ‘لا العلماء الذين وصفهم علد الله العروي بأنهم" الرجال المعروفون دائما بطاعتهم للسلطة"، ومنهم المهدي بن الطالب بن سودة وعمر بن سودة ومحمد عبد الواحد الدويري ومحمد بن محمد حمادي المكناسي ومحمد الفيلالي. لقد أورد أجوبتهم محمد داود في تاريخه بعرض نماذج منها كجواب عمر بن سودة الذي قال " الحمد لله فإذا نفذ بيت المال..وقصر عن القيام بمصالح المسلمين نفعا...فلا بأس بأخذ مولانا من عامة المسلمين زيادة معونة على وجه لا إجحاف فيه". لقد أجمعت كل الإجابات على أن فراغ بيت المال من الضرورات التي تبيح المحظورات. وبذلك يجوز للمخزن جمع المال من الرعية. فمعظم الإجابات أوردت مثل هذه العبارات " لاشك عندنا في جوازه" "وحكمه" أو " فلا بأس بأخذ". فهذه الأجوبة تدل على هشاشة إيمان هؤلاء بسداد ما أفتوا به. وما يبرر قولنا أن كل أجوبتهم جاء " بالموافقة المشروطة"، وارتبطت الشروط بشيئين أساسيين. أولهما كيفية القبض، ثانيهما شخصية القابض. و اشترطوا في القبض" ثم ليكن القبض من وجه رفق" و" على وجه لا إجحاف فيه" وأكدوا على ضرورة "جباية الأموال بالرفق".واشترطوا في الجابي أن يكون من أهل الثقة والأمانة والتحري في تقديم من يتولى قبض ذلك" وأن لا يوجد لقبضها إلا من تحققت أمانته". فرغم اختلاف العبارات فإن جل الشروط أكدت على الرفق في القبض وعلى حسن سلوك القابض، فضل الدويري والمكناسي المعونة عن المكس. وبنوا حججهم على أن المغارم إذا كانت لصالح المسلمين فليست من المكس في شيء . والمعونة طبعا هي لصالح المسلمين لعجزهم عن مواجهة الأجانب، وبذلك وجدوا وسيلة تخرجهم من ورطة اعتبار المعونة مكسا ونص الشرع واضح في تحريمها حيث أن الرسول ( ص) قال لا يدخل الجنة صاحب مكس(أورده محمد داوود)فمن الأجوبة السالفة الذكر استمد السلطان الشرعية لجمع المعونة من الرعية. وكتب لعمال المدن يطلب منهم المعونة. ومما جاء في خطاب لأهل سلا.."لأن المراد أن يعطي كل واحد على قدر حاله"،كما طلب السلطان الأموال من مدن أخرى. واعتمادا على هذه الأموال استطاع المخزن دفع مال الغرامة. وساعد السلطان على الوصول إلى هذا المبتغى العلماء الذين لم يدخروا جهدا لتبرير شرعية هذه الضريبة ودحض كونها مكسا.
استشارة السلطان الحسن الأول بصدد قضية الوسق
جرت العادة عند سلاطين القرن التاسع أن تتم الاستشارة على مستويين. أولها حاشية السلطان الذين وصفهم بقوله" اسشرنا فيه جميع من يشار إليه بالخير والفضل والدين والعقل...موثوقا بديانته وأمانته"،هؤلاء أشاروا على السلطان في مسألة الوسق"أن لا مصلحة في تسريح ذلك أصلا وبرروا سبب رفضهم لما سيجلبه التسريح من غلاء الأسعار الذي سيضر الفقراء من الرعية . ونظرا لرفض هؤلاء المستشارين المصادقة على تسريح البضائع التي طلبها الأجانب فإن السلطان وجه الاستشارة إلى المستوى الثاني الذي يمثله العلماء الذين سيجدون في النصوص الشرعية ما يبررون به قبول ما يريده السلطان.
شارك في الرد على الاستشارة حسب المنوني في دراسة عن " النخبة المغربية من فاس وما إليها"، ويقصد بالنخبة من كانت كتابات القرن التاسع عشر تسميهم "الخاصة وأولي الحل والعقد". ولنفس الهيئة أرجع ابن زيدان الإفتاء في النازلة بقوله: "وجهت..لخواص الأمة من أهل فاس علمائها وتجارها ومرابطيها".اتفق الجميع على أن الاستشارة وجهت لهيئة مثلت المثقفين من أهل فاس باعتبارهم المؤهلين للفصل في النازلة. فوجه لهم السلطان رسالة أوردها الناصري في "الاستقصا" و مما جاء فيها"أما بعد فقد طلب منا بعض نواب الأجناس بطنجة تجديد شروط التجارة بقصد تسريح الأشياء الممنوعة الوسق. كالحبوب مطلقا والأنعام..ونقصان صاكة الخراج ذاكرين أن تسريح ذلك فيه النفع لبيت المال والرعية".
في بداية رسالته طرح السلطان المشكل العالق، ورصد مطالب الأجانب وأبرز أنه يحاول العمل بما يناسب الظروف ثم أكد على صفاء نيته بقوله" وحاش الله أن نتسبب للمسلمين في غلاء أو نوافق لهم على ضرر"، كما أشار السلطان إلى جواب الهيئة الأولى التي رفضت تسريح البضائع للأجانب، وأكد أن الظروف هي التي فرضت عليه توجيه الاستشارة للعلماء للبث فيها، وإيجاد وسيلة سلمية للتعامل مع الأجانب حيث قال" ولما رأينا الأمر استحال إلى أسوأ حال أو كاد تداركنا هذا الخرق بالرفض وجنحنا إلى السلم..وارتكبنا أخف الضررين فاقتضى نظرنا الشريف أن نظهر لكم درءا لتلك المفاسد...أن يساعدوا على تسريح أشياء بقصد الاختبار...كالقمح والشعير وذكران البقر والغنم..ثلاث سنين فقط على شرط الأختبار في المنفعة التي ذكروها في تسريحه الكل بأعشاره..على أن يكون تسريح ذلك في وقت غلته..مدة ثلاثة أشهر"، ويظهر من كلام السلطان رغبته في مسالمة الأجانب لإدراكه ضعفه العسكري أمامهم. لذلك طلب تسريح ما يطلبونه من بضائع ارتكابا لأخف الضررين، زيادة على أن التسريح سيشكل موردا أساسيا لمداخيل بيت المال، وفي النهاية ختم رسالته بقوله" ولتعلموا أنكم لن تزالوا في سعة فإن ظهر لكم ذلك، فالأمر يبقى بحاله وإن ظهر لكم ما هو أسوء في الدفاع عن المسلمين فاعلمونا، به إذ ما أنا إلا واحد من المسلمين"، واعتبر بعض المؤرخين النازلة عبارة عن استفتاء شعبي عام. وقرأ نص الرسالة السلطانية في مسجد القرويين بفاس لمناقشة القضية.
أفتى في النازلة عدد كبير من العلماء. كان منهم من رأى أن"يقضي بعدم الإسعاف والإسعاد مع تفويضهم له وتصريحهم بأنه ليس لهم بين يديه كلام"ويظهر من كلام هؤلاء العلماء تذبذب موقفهم،فرغم عدم اقتناعهم بالتسريح إلا أنهم فوضوا النظر في النازلة إلى السلطان. وكان في مقدمة العلماء الذين حرروا أجوبة في النازلة جعفر بن ادريس الكتاني. وأمضى جوابه مجموعة من العلماء منهم حميد بن محمد بناني وعبد الهادي بن أحمد الصقلي وعبد السلام بن سودة وغيرهم فإجابتهم نموذج لإجابة العالم المخزني الذي كان همه تسخير علمه لمصلحة المخزن حيث قال الكتاني"..وصلنا كتاب سيدنا..يستشير فيه رعيته ويستخبر في شأن ما يطلبه نواب الأجناس..فليعلم أنه ليس لنا بين يديه كلام ولا لإجاباتنا مع وجود عزته جواب"،وأورد الكتاني عدة نصوص تدل على مشاورة الرسول لأصحابه في المواقف الحاسمة. ووضع الكتاني سبب قوله تسريح ما طلبه الأجناس بقوله" وقد تأملنا أحوال الله اليوم فوجدناها كلها دالة على أن قصدهم بصحبة المسلمين والخدمة معهم وإعانتهم على الحرب هو الدلالة على عداوتهم". فموافقته نتيجة لخوفه من قوة الأجانب وإداركه لضعف المغرب.
لذلك نصح الكتاني السلطان بأن يعمل معهم "المهادنة لحل معلوم وأمر معين ومحتوم". وبذلك يستطيع المغرب إعادة تكوبن نفسه.
نفس الرؤيا جسدها الناصري في جوابه الذي يؤكد فيه على ضرورة مهادنة الأجانب " لأنهم بلغوا اليوم من القوة إلى الحد الذي لم يكن لأحد في ظن" كما أن تسريحه البضائع سيعود بفوائد مالية مهمة لأن الأجانب إذ اشتروا البضائع المغربية فإنهم سيأخذوها بأثمان مرتفعة إضافة إلى ذلك لن يؤثر على السوق الداخلية لأن الإنتاج متوفر، وفي الأخير وكغيره من العلماء رجح الناصري رأي السلطان في الموضوع بقوله" فمن الرأي الذي لا رأي فوقه أن نفوض إليه في ذلك ونثق بحسن رايه،أي بأن الأمر في ذلك إليه...فما اختاره.. اخترناه". كان ذلك موقف العلماء المخزنيين، أما العلماء اللامخزنيون فإنهم رفضوا تسريح المسوقات وحل المسألة سلميا. لكن السلطان لم يلتفت لآرائهم وهؤلاء هم الذين وصفهم الناصري بأنهم "من العامة الأغمار الذين لم يجربوا الأمور". أما تقييد العلماء. فقد أدوا فيه الواجب تذكيرا ونصحا. وقد انتقد السلطان أجوبة مستشاريه كل فريق على حدة بقوله "أما الشرفاء العلويين...ومن نحا نحوهم في رد الأمر إلينا ...فقد أدوا من الواجب بعضه..أما أهل زرهون فمن قبيل هؤلاء غير أنهم معذورون إذا لم يبلغوا مبلغهم من الذكاء" لقد فضل السلطان الحل السلمي وسرح البضائع التي طالبها الأجناس الذين حققوا مطالبهم الواحدة تلو الأخرى بموافقة السلطان والعلماء.
الاستشارات السلطانية في المجال العسكري
طرح الفكر السياسي المغربي المسألة العسكرية بنوع من الحدة ابتداءا من سنة 1844 إثر هزيمة الجيش المغربي أمام القوات الفرنسية بإيسلي. حيث ألفت عدة كتب قدمت كاقتراحات للسلطان تبرز أهم الإصلاحات لتجاوز كبوة الحرب. ذلك أنه قبل هذه المرحلة لم يشعر حكام المغرب بالحاجة إلى الإصلاح العسكري. لأنهم وجدوا في النظم الموروثة من الأجداد " ما مكنهم من إيقاف المد الأوربي".
طرحت المسألة العسكرية بحدة أكثر بعد هزيمة تطوان حيث أجمعت المصادر على أن " هزيمة المغرب فيها لم تنشأ عن الجبن. أو لبخل بالتضحية إنما السبب الأكبر في ذلك هو الفوضى وقلة التنظيم أو عدمه"لذا تعالت صرخات المفكرين بضرورة تنظيم الجيش. وكان السلطان أول المدركين لفوضوية جيشه . لكن تنظيم جيش قوي يحتاج إلى أموال باهضة لا يستطيع بيت المال توفيرها وقتذاك، فكان لا بد للسلطان من البحث عن حل للمشكل، ووجده في فرضه معونة على الرعية. وطبعا لن يتم هذا إلا بتبرير شرعية المعونة من طرف العلماء. فما موقف العلماء من تحديث الجيش والمعونة؟
استشارة السلطان محمد بن عبد الرحماى حول تحديث الجيش
بعد حرب تطوان تقدم السلطان إلى علماء المغرب يستشيرهم عن حكم تنظيم الجيش وإحداث المعونة . وأكد أن التحديث أصبح من الضرورات الملحة للقيام بالواجب الديني. وبذلك بعث السلطان عدة رسائل إلى العلماء والتجار والأمناء، في بداية الرسالة ابرز السلطان مشكلة تموين الجيش ثم عرض المسألة على التجار لإبداء رأيهم فيها نظرا لخبرتهم في المال وقدرتهم على تحديد مقدار المعونة المفروض على كل شخص دون التسبب في أي ضرر للرعية. كما استشار السلطان العلماء لقدرتهم على الإقناع بالشرع وتقريب الجباية من قلوب المغاربة، وكان عدد العلماء المستشارين عشرة منهم أبو محمد عبد السلام. محمد بن المدني كنون...وغيرهم.
أدلى مجموعة من العلماء بأجوبتهم في النازلة، نذكر من ضمنها جواب المهدي بن سودة الذي قال " هذا وإن بلغ حد الاشتهار..أن البارود لم يكن في زمانه صلى الله عليه وسلم.. حتى كانت أواخر المائة الثامنة فحدث البارود..فعلم أهل الإسلام أن غيض الكفار لا يكون إلا باتخاذ البارود والقتال به إذ الشيء لا يقابل إلا بمثله أو أقوى منه، فالمطلوب من سيدنا الهمام.اتخاذ جيش يكون درءا لأهل الإسلام..لأن النظام..هو عبارة عن نظم أمور في الجيش راجعة لتقوية فائدته اتخاذ النظام البوم قوة مستطاعة للمسلمين على الكفار..أن يوسع عليه ( الجيش) أكلا وشربا" أجاز المهدي بن سودة تنظيم الجيش على الطريقة الحديثة لمواجهة العدو بنفس أسلوب قتاله ودعا إلى مزيد من العطاء المالي للجنود لما يبذلونه من خدمات لصالح البلد ولضمان ولائهم، وطبعا لن يتوفر هذا المال إلا بمساعدة الرعية للمخزن. ونفس الإجابة تقريبا وردت عن العلماء مع اختلاف صيغ التعبير.
استنادا إلى أجوبة العلماء استمد السلطان الشرعية لتحديث الجيش وجمع المعونة من الشعب. وفعلا قام السلطان بتنفيذ هذا الإجراء. وسيتابع خلفه الحسن الأول نفس الأسلوب الإصلاحي. وليوفر مصاريف ذلك، استشار في سنة 1876 العلماء عن حكم توظيف المعونة لتنظيم الجيش المغربي فتملص عدد كبير من العلماء من الإفتاء بجواز فرض المكوس خصوصا مع ما أثاره مشكل المكوس من ثورات كثورة الدباغين بفاس.
وطبعا كان من الـعلماء المخزنيين من تصدى للإجابة حيث ألف علي بن محمد السوسي" كتاب سماه" عناية الاستعانة في حكم التوظيف والمعونة" اعتبر فيه أن التحديث لم يكن اختيارا، بل كان ضرورة للدفاع عن النفس، وحاول فصل المعونة عن المكس اعتبارا منه أن الفقهاء اتفقوا أن" التوظيف يفرض لمصلحة داخلية عامة أو لدرء الخطر الخارجي" وبذلك فالتوظيف لتحديث الجيش الذي بواسطته سيتم درء خطر خارجي ليس مكسا. والتمس السملالي لتبرير جوابه حججا فقهية وتاريخية للفصل بين مفهوم المكس والمعونة وكتاب "عناية الاستعانة" هو محاولة للتوفيق بين إقرار المعونة ومطلب التحديث العسكري ، ويظهر من خلاله تأرجح الفقيه بين الدين والسلطة، ومحاولته التوفيق بين ما يطلبه السلطان وما ينص عليه الشرع ويقره.
وعموما فإن كلا السلطانيين وجدا في صفوف العلماء من يضفي المشروعية على مشاريعهم الاصلاحية، لكن السؤال يظل مطروحا هو مدى نجاعة هذه الاصلاحات في ظرفية المغرب المتأزمة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.
جوانب من أثر الأزمة المالية على السكان خلال القرن 19
شهد مغرب القرن 19 أزمة مالية خانقة كانت بدايتها مباشرة بعد حرب تطوان، أما نتيجتها فهي دخول الاقتصاد المغربي تحت رحمة وهيمنة الاقتصاد الأوربي وانهيار الأسس الاقتصادية التقليدية للمغرب، ومن ثم لجوؤه إلى سياسة الافتراض مما أدخله في ورطة الديون حيث كان يؤدي فوائد قروض قديمة بقروض جديدة، وبذلك بدأ يفقد الكثير من مقومات السيادة الوطنية.
ويمكن اختزال أسباب هذه الأزمة في العوامل التالية: ثقل الديون ونقص المحاصيل وإلحاح النفقات وانخفاض قيمة العملة.
ومن المعلوم أن مصدري بيت المال هما إيرادات الجمارك والضرائب الفلاحية، لكن المخزن حرم من قسط كبير من مداخيل هذين المصدرين،
فبالنسبة للمصدر الأولى لم تعد تتصرف فيه الدولة تصرفا حرا وكاملا، إذ تطلب تسديد الأقساط المتبقية من تعويضات حرب تطوان وأداء الدين الانجليزي تخلى المغرب عما يقارب ثلاثة أرباع مداخيل الجمارك للدائنين الأجانب.
أما بخصوص المصدر الثاني فقد أثرت فيه كوارث طبيعية تعاقبت على المغرب من سنة1867/1869. تحدث عنها الناصري، وقد نتج عن هذه الكوارث نقص فادح في المحاصيل الزراعية التي كانت تشكل الثروة الأساسية للمغرب، فأفلس السكان وعجزوا عن أداء الضرائب، ولم تستطع السنوات التي تلت سنة 1869 أن تمحو كل النتائج البعيدة المدى لهاته الأزمات. يقول الناصري في هذا الصدد " وكانت أيام السلطان سيدي محمد رحمه الله في أولها شديدة بسبب ظهور العدو على المسلمين وما عقبه من الغلاء والموت..وبعد ذلك اتسع الحال".
إلى جانب ديون تطوان ومخلفات الكوارث الطبيعية انضاف عامل ثالث زاد في تأزيم الوضعية المالية هو إلحاح النفقات لإنجاز مشاريع إصلاحية. أما المشكل النقدي فتمثل في فقدان النقود المغربية قيمتها تدريجيا حيث فقدت ما بين 1845 – 1873 ما يقارب تسعة أعشار قيمتها.
وسنحاول أن نبرز جوانب من انعكاس الأزمة المالية على السكان وأوضاعهم وعلى البلاد عامة.
أمام الاحتياج الشديد للخزينة المغربية اقتضى نظر الحكام إلى تحصيلات أخرى كضرب الأراضي بالخراج باعتبارها أرض فتح عنوة إلى جانب تحصيل العشر فيكون ذلك الاعتبار بابا لتحصيل مغارم ما عدا الزكاة. وإما يفرض ما يسمى بالتوظيفات والمعونة وذلك استنادا إلى شروط متعلقة بالجهاد . أو ما أصبح يطلق عليه اسم المصالح المرسلة، وهي المستجدات من الأحداث والوقائع التي لم ينزل في حكمها نص شرعي. كل هذا ساهم في إذكاء نار الاحتجاجات من طرف القبائل التي احتجت على سياسة المخزن الجبائية. وساهم في تفاقم آثار هذه السياسة التي كانت تزداد جورا كلما كانت الجباية مجحفة والتسخير مرهقا.
يبدو لأول وهلة أن الجباية وحدها لا تفقر. خصوصا إذا علمنا أن النصف الثاني من القرن 19 عرف عوامل تدمير أخرى طبيعية وظرفية أي المجاعات والقحوط. والتي نتج عنها غلاء المعيشة. إلا أن بعض الإشارات تدل على أن المطالب المخزنية والشطط الذي كان يمارسه أصحاب الجباية كان له أثر ه من بين عوامل الأزمة العامة. وفي إطار الانتقالات السكانية ونظرا لكون سكان البادية أكثر الفئات تضررا من حيف الجباة. فقد كثر عدد المهاجرين من مقر سكناهم في البادية في اتجاه المدينة لا لسبب إلا ليسلموا من الوظائف المخزنية ويتحرروا منها. وكان الرحيل يتم فرديا وقلما يحدث بشكل جماعي ذلك أن سكان القبيلة إذا تعذر عليهم دفع ما عليهم كانوا يعلنون الخروج عن العامل، ويمنعون الجباية ويواجهون الحاكم المحلي إذا خرج إليهم بحد السلاح.
ولم يكن سكان البوادي هم المتضررون فقط بل كانت هناك فئة تجار المدن التي تضررت من مزاحمة الأجانب، وتدمرت من كثرة الإعفاءات الجبائية والامتيازات القضائية التي كان يتمتع بها الأجانب. وقد أبدت فئة تجار المدن تعاطفا مع الثوار من سكان البوادي وساندتهم في إطار تنظيمات الزوايا.
وتأثرت فئة الحكام بدورها من الأزمة المالية حين واجهة الضغوطات الأجنبية وخسرت في تلك المواجهة كثير من هيبتها ونفوذها وسلطتها فانقسمت فئة الحكام على نفسها وكثرت الدسائس والمكائد مما سمح للقناصل ليتدخلوا قصد لعب دور الحكم بين جموع المتحاربين. خصوصا بعدما أصبح الوزراء والقواد والعمال مثقلين بالديون لدى التجار أو مسجلين ضمن لوائح المحميين عند وكلاء الدول وسرعان ما وجد هؤلاء المسؤولين أنفسهم بين معضلتين: أولا التهديد من الخارج المتمثل في تعرض البلاد لضغوطات أجنبية. وثانيا الانتفاضات الداخلية.
ومن الآثار العامة كذلك للأزمة المالية هناك اختلال الأمن بين القبائل وتعدد الحركات المخزنية خصوصا عندما تطالب بدفع الزكوات أو الجبايات النقدية مما تسبب في عدة اضطربات سادت العديد من المناطق خاصة تلك المتأثرة من سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إذ انتشرت الانتفاضة بالحوز والشاوية ودكالة والغرب وكافة السهول الأطلسية بما فيها سوس. ثم أخذت تمتد إلى غير ها تدريجيا. كما تمت تصفية بعض القواد ورجال السلطة ونهبت دور آخرين.
لقد أوضح بعض الفقهاء أن ضريبة المكس التي تم إحداثها كإجراء مالي لمواجهة الأزمة المالية هي ضريبة غير شرعية مما يعني أنها في كثير من الحالات تؤدي إلى ثورة الصناع والتجار، وكان الخطر يتصاعد كلما تزامن فرض المكوس مع حدوث ضائقة في البوادي.
وفي هذا الجو إندلعت ثورات محلية انعزالية كانت أخطرها ثورة الدباغين في فاس. هذه الثورة التي نشبت بسبب إقرار المكس على الجلود من طرف الأمين محمد بن المدني بنيس فثار الدباغون وبحثوا عن الأمين بنيس ثم حاصروا منزله. واتسع مدى الهيجان. وتمكن الأمين من الاختفاء بحمام، لكن المهاجمين اقتحموا داره ونهبوها إذ كانت بـها أموال طائلة.
وعن هذه الثورة يقول الناصري " لقد ثار الغوغاء وسفلة الأخلاط من الدباغين وتجمهروا وذهبوا لدار الأمين المذكور (بنيس)..وتلاحق اللاحق بالسابق وتسلح القوم واجتمع الغوغاء من كل حدب وصوب، وصمموا على الهجوم على الدار...ودخل النهاب الدار. واستولوا على ما بها من النفائس والدخائر والأموال.
ولم يكتفي الدباغون بنهب دار بنيس التي بالقطاعين بل عمدوا حتى للعرصة ونهبوا جميع ما بها. فكاتب السلطان أهل فاس يذكرهم بالتزاماتهم وكانوا قد فهموا من الخطاب الملكي تهديدا بعقاب المشاغبين. فزاد ذلك من توثر الحالة بمدينة فاس، و عبر الدباغون عن غضبهم بشدة وعندئذ أعطى العامل الأمر بتطويق المهاجمين وتمت قنبلة مواقعهم بالبندقية ثم عرض السلطان الأمان على أهل فاس بشرط قبولهم إقرار المكوس من جديد، وتوقفت المواجهة بعد أن بعث أهل فاس رسالة استعطاف عما سلف منهم إلى السلطان مولاي الحسن. وقد عاود الدباغون الكرة سنة 1874 بعدما تمت إعادة فرض المكوس على الأبواب " وأعلنوا التمرد والعصيان...وآل الأمر إلى إشهار السلاح والمبارزة والكفاح...فمنذ ذلك أمر السلطان بمقابلتهم على قدر جريمتهم. فطاف بهم العساكر ورموهم بالكور من كل ناحية...وفي أثناء ذلك بعث السلطان وزيره أبا عبد الله الصفار يعضهم ويعرض عليهم الأمان بشرط التوبة والرجوع إلى الطاعة. فأذعنوا وامتثلوا وانطفأت نار الفتنة الملعون موقدها..."
وبعدما استقرت الأوضاع واستقامت الأحوال رغب الدباغون في التخلص من وضعهم الحرج، وذلك إما بإبعاد بنيس عن مدينة فاس، وإما بإسقاط المكوس التي كانت سببا فيما حدث " وذهب (الدباغون) إلى الشريف الفقبه المولى عبد الملك الضرير وقالوا له: أنت الذي أوقعتنا في هذا كله بضمانك إسقاط المكس أولا حتى صدر منا في حق بنيس ما صدر. والآن أخرجنا مما أوقعتنا فيه إما بإسقاط المكس، وإما بإخراج بنـيس من بين أظهرنا لئلا تـدول له دولة عـلينا والرجل قد قد صار عدوا لنا".
هكذا فقد تم إخماد ثورة فاس. وذعن أهله إلى السلطان بعدما كانت بيعتهم له مشروطة بإسقاط المكس.
حول الإصلاح في مغرب القرن 19
- مقدمات أولية -
يثير الحديث عن المسألة الإصلاحية في مغرب القرن 19 عدة إشكاليات منها ما يتصل بالجانب النظري (تحديد المفهوم والتصور)، ومنها ما يتعلق بالواقع والتدابير الإصلاحية كما مورست، ومصادرها والميادين التي طالتها، فمفهوم الإصلاح قد يكتسي عدة معان وقد تتداخل دلالته مع دلالات مصطلحات أخرى كالتحديث والتجديد والتغيير والنهضة...وأمام هذا التداخل لا مناص للباحث أن يحدد التوظيف الإجرائي لهذا المفهوم، وفي هذا الصدد نرجح التمييز الذي أبرزه" علي أومليل" في دراسته عن "الإصلاحية العربية" بين منطق الإصلاح الإسلامي القديم والإصلاح الإسلامي الحديث من حيث أن الإصلاح الثاني يختلف عن الأول بإحالته على الآخر واتجاهه إلى الغير في تصوره ومباشرته لعملية الإصلاح وصياغة مشاريعه، ولقد شهد المغرب خصوصا منذ منتصف القرن 19 دعوات ومشاريع وحركات إصلاحية في سياق الاحتكاكات الأولى التي وقعت بين المغرب وأوربا أو ما يعرف بصدمة الحداثة كما تتردد في أدبيات وفكر النهضة، وقبل أن نتعرف على نموذج من هذه الإصلاحات (العسكرية) لا بد من الإشارة إلى الاعتبارات التالية:
تنشا الحاجة إلى الإصلاح والشعور بضرورته ووجوبه في كل مجتمع نتيجة لوعي بخلل ذاتي وبتدهور الأوضاع الداخلية، كما يمكن أن يكون ناتجا عن وعي بأخطار خارجية محدقة بكيان هذا المجتمع. وقد يكون ناتجا عنهما معا، وهذا شأن المغرب منذ منتصف القرن الماضي باعتبار أن الإصلاح مثل ظاهرة طويلة الأمد واكبت تاريخ المغرب. فكانت دوما مصادر داخلية للإصلاح في مقدمتها النموذج السياسي الإسلامي. إلا أن واقع الاحتكاك مع الدول الأوربية خلق وضعا جديدا وبالنتيجة فرض مصدرا خارجيا للإصلاح.
إن ما يلفت النظر بخصوص هذه التدابير الإصلاحية أن كل المبادرات جاءت في الغالب من الجهات الرسمية وتمت على يد الجهاز المخزني والسلطان.
لا يمكن ربط التجربة الإصلاحية ربطا سببيا بجملة من العوامل المحددة، بل ما يمكن التأكيد عليه أنها جاءت نتيجة تفاعل احتكاك شروط مميزة لوضع داخلي يتسم بتأخر شامل في هياكله وبنيانه، تقابله شروط وضع خارجي يتميز بتقدم بنياته العسكرية والصناعية والعملية.
كانت الإصلاحات التي كان السلطان ينوي القيام بها متداخلة فلا يمكن أن يفلح في إحداها أن أخفق في سائر الإصلاحات الأخرى لذا مست المحاولات الإصلاحية كل الميادين والقطاعات (مالية –عسكرية – إدارية- تعليمية...).
لا بد من التمييز بين الإصلاحات التي كان الأجانب يرغبون في إدخالها قصد " تمدينه" وتغيير البنى التقليدية التي تعرقل كل عمل تحديثي من جهة أولى، والإصلاحات التي كان السلطان مقتنعا بضرورة القيام بها من جهة ثانية،مع ما اقترن بهذه القناعة من حرص شديد على الحفاظ على استقلال البلاد والوفاء بالتقاليد والمقومات الإسلامية فضلا عن عدم ثقة السلطان بأية دولة أوربية وإدراكه للأهداف التي كان الممثلون الأجانب يرمون تحقيقها من وراء الإصلاحات المزعومة التي يوصون بها إضافة إلى وعيه بالصراع الدائر بين الهيئات الدبلوماسية التي كانت ترعى مصالح الدول التي تمثلها في المغرب، كل هذه المعطيات تفسر لنا طابع الاحتراس والتردد الذي طبع كل خطوات السلطان وميز سياسته الإصلاحية إذ كان على بينة من تحفظ الأمة إزاء كل أشكال التدخل الأجنبي وموقف العامة الرافض للاقتراحات الأجنبية، وهو رفض له مشروعيته ومبرراته خلافا لما روجته بعض الكتابات الأجنبية من كونه راجعا لتعصب المغاربة وكراهيتهم المطلقة للأجانب، فالمصادر الأجنبية وحتى بعض النصوص المغربية حافلة بأحكام عديدة في شأن هذه المواقف (مثال العربي المشرفي).
إن الإصلاحات الموصى بها من قبل الدول الأجنبية كانت ذات طابع اقتصادي ومرتبطة بما يضمن مصالحها الحيوية بالبلاد وتوسيع استثماراتها، لذا نصادف في كل البرامج الإصلاحية التي اقترحها القناصل الأوربيون إلحاحا على بعض القطاعات بالتحديد، وعلى الميادين التي يمكن لهذه الدول الاستفادة منها كالمطالبة بإصلاح بعض الموانئ المغربية كميناء الدار البيضاء وآسفي وطنجة، وإدخال التلغراف لتسهيل المبادلات بينها وتأسيس دور ومتاجر الأوربيين، وإلغاء قرارات منع المتاجرة ببعض المواد، وبناء الطرق وإنشاء سكة حديدية لتسهيل النشاط التجاري والتحكم فيه.
فغني عن البيان أن الإصلاحات كما أراد الأوربيون صياغتها وإنجازها كانت تستهدف خلق شروط مواتية لضمان استغلال منظم وعقلاني لصالح الرأسماليين الأوربيون ولفائدة المؤسسات الاستعمارية وتوفير قنوات مناسبة للتسرب الأجنبي، غير أن إدخال مثل هذه الإصلاحات كانت تعني عند المغاربة مزيدا من التمازج بالأجنبي وما يترتب عنه لهذا واجهوها بالرفض الذي عبر عنه فئة من العلماء (مثال: المغيلي محمد بن عبد الكريم: جواب وسؤال فيما يجب على المسلمين من اجتناب الكفار).
وثمة تمييز آخر يكمن في دلالة معنى الإصلاح بالنسبة للقوى المجتمية وهو تمييز يمثل السبب الجوهري في إخفاق الإصلاح حسب رأي " عبد الله العروي" في كتابه" مفهوم الدولة" حيث يلاحظ هذا الأخير أن الإصلاح لم يكتب له النجاح سواء في المغرب أو في كل بلدان العالم الإسلامي لأسباب متعددة غير أن السبب الرئيس -يرى العروي- كون أن الإصلاح لم يكن يعني معنى واحد بالنسبة للمخزن من جهة وبالنسبة للرعية أو من يتكلم باسمها من جهة ثانية.
فالإصلاح بالنسبة للدولة يعني تقوية السلطة من خلال التذرع بلوازم مواجهة الأجانب (العدو) وبالتالي يبدأ بتدريب الجيش وتسليحه في مثل هذا الحال فإن الإصلاح لا يرتقي إلى مرحلة القطيعة مع الماضي بل يعني تثبيت النظام القديم بأساليب تبدو تجديدية، بيد أن الإصلاح بالنسبة للعلماء فإنه يعني القضاء على أسباب الانحطاط في مقدمتها الاستبداد الذي أدى إلى الجور والاستئثار بالخيرات، وأن الإصلاح هو الرجوع إلى حكم العدل والشورى وتحقيق المصالح العامة، وهو الطريق الوحيد لمواجهة العدو، ويخلص العروي من هذا التمييز إلى أن التناقض في فهم الإصلاح ومضمونه هو العامل الذي كان وراء إخفاق كل تجربة إصلاحية في بلدان العالم الإسلامي.
بيبلوغرافيا تمثيلية:
ملحوظة: كثيرة هي المصادر والمراجع التي تهم تاريخ المغرب في القرن التاسع عشر. إذ حظيت هذه الفترة بنصيب الأسد من اهتمام الباحثين والمؤرخين مغاربة وأجانب. لذا نقدم مجرد عينة من المصادر والدراسات دون أن يعفي ذلك من الرجوع إلى كل التصانيف التي تتصل بتاريخ مغرب القرن 19.
- محمد بن ابراهيم السباعي: البستان الجامع لكل نوع حسن وفن مستحسن في عد مآثر السلطان مولانا الحسن .خ.ع. رقم 1346.
- محمد المشرفي: الحلل البهية في تاريخ ملوك الدولة العلوية مخطوط خ. ع. د- 1463.
- أحمد بن محمد بن حمدون بلحاج: الدرر الجوهرية في مدح الخلافة الحسنة خ.ح.ر.
-العربي بن علي المشرفي: الحسام المشرفي خ.ع.ر ضمن مجموع رقم 22765.
-محمد الحجوي: اختصار الابتسام، مخطوظ خ. ع. ر رقم ح 144.ضمن مجموع.
-محمد الدرقاوي المدغري: منشور يـدعو إلى الحرب خ. ع. ر رقم د 3353.
-محمد بن عبد الله الغيغائي: رحلة الغيغائي خ.ع.ر قم 98.
-محمد بن عبد الله التطواني الصفار: رحلة إلى فرنسا – مخطوط خ.ح.ر رقم 113.
-أبو العباس أحمد بن محمد الكردودي: التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الاصبنيولية – مطبوعات القصر الملكي، الرباط 1963.
-إدريس بن إدريس العمراوي: تحفة الملك العزيز بمملكة باريز، الطبعة الحجرية خ. ع.ر رقم 23440. د.ت.
-أبو الجمال محمد الطاهر بن عبد الرحمان الفاسي: الرحلة الإبريزية للديار الانجليزية- تحقيق محمد الغائي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي- الرباط.
-عبد الرحمان ابن زيدان: إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس- المطبعة الوطنية بالرباط، الطبعة II 1990.
-أحمد بن خالد الناصري: الاستقصا في أخبار دول المغرب الأقصى، مطبعة دار الكتاب- الدار البيضاء، 1956 – 1954 ج 9.
-ليفي بروفنصال: مؤرخو الشرفاء- تعريب عبد القادر الخلادي مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر 1977.
-ابراهيم حركات: التيارات السياسية والفكرية بالمغرب خلال قرنين ونصف قبل الحماية – مطبعة الدار البيضاء، الطبعة I ، الدار البيضاء 1985.
-محد داوود: تاريخ تطوان ، المطبعة المهدية، تطوان 1962.
-محمد المنوني: مظاهر يقظة المغرب الحديث، منشورات وزارة الأوقاف- يناير 1973.
-أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن 19 ، إينولتان(1912-1850)، منشورات كلية الآداب، الرباط، يناير 1979.
-Miège (J.L) :Le Maroc et l’Europe 1830- 1894 , 4 tomes Edition de la porte, Rabat 1989.
-Julien (ch.A) : Hassan 1er et la crise marocaine aux 19ème siecles – in les Africaines, Tome INTERETS.
-Kenbib(M) : Les protections étrangéres au Maroc au 19ème siécle début du 20 siécle.
المجلات والدوريات:
-دورية الوثائق الملكية.
-مجلة دار النيابة.
-مجلة أمل.
-مجلات كليات الآداب بالمغرب.
-مجلة تطوان.
-مجلة البحث العلمي.
-مجلة دعوة الحق.
-مجلة تاريخ المغرب.
-Hesperis Tamuda
-Archives Berberes.
-Archives Arabe.
- الكتابات التاريخية حول مغرب القرن19
أ-التأليف الأجنبي
1- طبيعته
2- تنوع هذه التآليف
3-أهم مراحل هذا التأليف
4-نماذج من قراءات هذا التأليف الأجنبي لمغرب القرن 19
ب-التأليف المغربي
1- تطور الكتابات التاريخية المغربية
2- مراحل تطور التأليف التاريخي
- جوانب من مسلسل التوسع الأجنبي بمغرب القرن 19
- الحماية القنصلية
- ملامح من التحولات الاقتصادية بمغرب القرن 19
- الاستشارات السلطانية خلال القرن التاسع عشر في الميدان المالي والتجاري والعسكري.
- جوانب من أثر الأزمة المالية على السكان خلال القرن 19
- حول الإصلاح في مغرب القرن 19 - مقدمات أولية -
- بيبلوغرافيا تمثيلي
الفهرس
يجب مراجعة هذه الفقرة
فمن المعروف أن علماء الاجتماع الكولونيالي كانوا واعون بمأموريتهم. فالمغرب في منظورهم تغلب عليه الهشاشة والتآكل. ومن تم وجب التنظيم للمهمة الحضارية ***في شمال افريقيا والتي سطر لها مهمة إعادة المغرب إلى لاتينيته الأولى كما حلم بذلك Louis Bertrand لكي يدخل آخر ** العالم الأبيض أي البرابر إلى السيرورة التاريخية الأوربية.
1903**: البداية الفعلية لعلم المغرب يقول متشو بلير"لقد كان يتعلق الأمر عند إنشاء Les archives Berbères بإقامة كشاف للمغرب وقبائله ومدنه وزواياه وبالوقوف على أوال كل ذلك وتفرعاته وصراعاته وتتبعه عبر الدول المختلفة خلال التاريخ ودراسة مؤسساته وعاداته. وباختصار ثدر المستطاع استكشاف المجال الذي سيكون علينا أن نعمل فيه استكشاف يمكننا أن نسلكه عن علم وأن نمارس سياسة أهلية دون أخطاء كثيرة ودون ضعف ودون عنف ولا داعي له وأن ننشئ إدارة من المرونة بحيث نستطيع أن تنطبق على خصائص القبائل المختلفة مع حفاظها على كونها إدارة واحدة"
إن التركيز على القبيلة ليس سوى حديث يهدف أساسا إلى إظهار الطابع التقليدي و** لمجتمع "قابل للرسالة التي تكلفت فرنسا بنشرها في المغرب.
لقد كان على الفرنسيين تجنب أسلوب التدخل العسكري المباشر بالمغرب لأنهم لم ** من كلفهم ذلك من حيث *********في تجربتهم مع الجارة الجزائر وفي هذا الإطار بالذات تأتي هذه القولة المشهورة لأحد منظري ***التغلغل الاستعماري بالمغرب ألفرد لرشاتوليي في إحدى تقاريره الموجهة لمسؤولي الإدارة الاستعمارية **يجب أن يكون لنا عن
1-طبيعته: هو تأليف أجنبي عامة وأوربي خاصة، ليس موحدا ومتجانسا، إذ هناك اختلاف في طبيعة الكتابات الأجنبية، ومن تم ينبغي التعامل معها من حيث التخصيص (هناك كتابات اسبانية، فرنسية...) ولهذا وجب التمييز بين هذه الكتابات أولا لاختلاف مؤلفيها وثانيا لاختلاف زمن كتابتها أي أن هناك تمرحل في هذه الكتابات مما يفسر اختلاف غاية كل مرحلة من مراحل التأليف الأجنبي.
ويشكل هذا الإنتاج الأجنبي رصيدا هائلا ومتنوعا، كما أن مؤلفيه يختلفون من حيث الوظيفة، فهناك العسكريون، رؤساء البعثات، التجار، الأساتذة وضمن هؤلاء نجد من كانت لهم اهتمامات جامعية، ومنهم من دخل المغرب بصفته متسترة ودخل قسيسا مثل جوستيناز الذي كان بمنطقة سوس لمدة 15 سنة يعمل كرجل دين) بالإضافة إلى أن هناك من أتى بصفة ضابط الإستخبارات.
وتدل كثرة هذا الإنتاج على وجود علاقة غير متكافئة بين المغرب وأوربا خلال القرن 19 ، بمعنى آخر ننظر إلى هذا الانتاج في حد ذاته من منطلق ارتباط المعرفة العلمية والسلطة السياسية أي أن العلم في خدمة السلطة، إذ شكل ذلك الإنتاج نوعا من التحضير الفكري للمشروع الاستعماري، حيث ركز بالأساس على معرفة الكيان المستهدف (اقتصاديا وحضاريا وجغرافيا_...) تسهيلا لمأمورية الاستعمار.
ومما يؤكد هذه العلاقة الوطيدة بين العلم والسلطة في التأليف الأجنبي ما عرفه هذا الأخير من كثرة بموازاة مع سيطرة الأجنبي على المغرب بحث كلما تقوى التواجد الأوربي بالمغرب كلما تزايد عدد الكتابات الأجنبية: مثلا: إلى حدود منتصف القرن 19 لم يتجاوز عدد الكتابات 270 مؤلف ومع نهاية القرن وصل عددها إلى 2000 كتاب، (محمد جسوس).
2-تنوع هذه التآليف:
ونقصد به الاختلاف في اهتمامات أصحابها وفي الموضوعات المدروسة مما أدى إلى بروز نوع من التخصص، فكل اختص في موضوع ما فمثلا نجد:
- ليفي بروفنصال: تخصص في نشر النصوص القديمة، هو الذي أعاد النظر في قضية تأسيس مدينة فاس.
- هوداس: اهتم بنشر النصوص (ترجم جزءا كبيرا من الاستقصا).
- هنري تيراس: اهتم بكتابة تاريخ سردي عام كما اهتم بمجال العمران في بعض دراساته.
- جاك بيرك: اهتم بدراسة البنيات الاجتماعية للقبائل المغربية وقام بدراسة قبائل سكساوة، وكان من السباقين إلى توظيف النوازل الفقهية في هذا المجال، ومن بين النتائج التي توصل إليها هي أنه لدراسة واقع القبيلة المغربية دراسة موضوعية لابد من ربطها بمحيطها ووسطها الايكولوجي البيئي، أيضا من الذين اهتموا بدراسة القبائل نذكر:
-روبير مونتاني: دراسة قبائل سوس. انظر مؤلفه (البربر والمخزن).
- ميشوبلير: تاريخ الفكر الديني المغربي(الزوايا) كما ألف في مواضيع اقتصادية ومالية.
-J.Drague : اهتم بالتاريخ الديني من خلال تطور مؤسسة الزوايا.
-شارل دوفوكو: زار المغرب وكتب" التعرف على المغرب" الذي يعد نموذجا للمؤلفات الاستكشافية « Reconnaissance du Maroc »
ويمكن القول بصفة عامة إن هذا التأليف الأجنبي اهتم بكل أشكال التنظيم الاجتماعي وبجميع مظاهر الحياة الدينية وبأهم المؤسسات المغربية. ومع تهاية ق 19 أصبح هذا التأليف مهيكلا أي أصبحت هناك مؤسسة ستشرف على تنظيمه وطبعه ثم نشره، أهم وأخطر مؤسسة منظمة هي البعثة العملية التي أسست سنة 1903-1904 من طرف "لوشاتوليي" (أستاذ السوسيولوجيا بفرنسا" وبعده أسندت مهمة إدارتها إلى « Eugène Etiènne »
والأبحاث التي أشرفت عليها هذه البعثة كان من تمراثها أن بدأت تصدر بانتظام في دوريتين Les Archives Berbers et les Archives Marocaines وأصبح رئيس هذه البعثة " مشوبلير" ومن أبرز روادها « SALMON FUMEY » وقد حدد "مشوبلير" هدف هذه البعثة التي تحولت فيما بعد إلى البعثة الاجتماعية للشؤون الأهلية بقوله.
"إن هدف هذه البعثة هو البحث في عين المكان عن وثائق تسمح بدراسة المغرب وبإعادة تركيب تنظيمه وحياته ليس فقط بمساعدة الكتب والمخطوطات بل كذلك بفضل المعلومات الشفوية وتراث القبائل وجماعات الفرق الدينية والأسس إن الأمر يتعلق منذ البداية بدراسة سوسيولوجية".
وفي نفس السياق يتحدث ميشوبلير عن مهام هذه البعثة التي اعتبرت بمثابة البداية الفعلية" لعلم المغرب" قائلا:" لقد كان الأمر يتعلق عند إنشاء Les archives bérbéres بإقامة كشاف للمغرب وقبائله ومدنه وزواياه. وبالوقوف على أصول كل ذلك وتفرعاته وصراعاته وتتبعه عبر الدول المختلفة خلال التاريخ ودراسة مؤسساته وعاداته، وباختصار استكشاف – قدر المستطاع – المجال الذي سيكون علينا أن نعمل فيه استكشافا يمكننا أن نسلكه عن علم وأن نمارس سياسة أهلية دون أخطاء كثيرة ودون ضعف ودون عنف ولا داعي له، وأن ننشئ إدارة من المرونة قابلة لأن تنطبق على خصائص القبائل المختلفة مع حفاظها على كونها إدارة واحدة".
هذا ويجب أن لا ننسى أن الأجانب خلفوا عدة وثائق تهم تاريخ المغرب، فالتدخل الأجنبي بالمغرب كان من نتائجه أن وفر لنا مجموعة من الوثائق لم يكن للمغاربة عهد بها ، تتحدث بلغة الأرقام، وهي مفيدة جدا وأساسية لأنها أتاحت إمكانية دراسة جوانب اقتصادية من تاريخ المغرب في القرن 19، مثلا مكنت من إعطاء فكرة عن حجم الإنتاج وحجم وقيمة المبادلات.
وهناك صنف آخر من الوثائق التي خلفها التأليف الأجنبي والتي تمثلت في المستندات وتقارير البعثات العسكرية والدبلوماسية وتقارير الشركات التجارية، ومجموعها وثائق وتقارير اقتصادية، بعضها عبارة عن لوائح بأسماء الصادرات والواردات، وبعضها الآخر عبارة عن تحقيقات حول قطاع اقتصادي معين مثل الصيد البحري، ومن غير شك أن هذه الوثائق ساهمت بشكل كبير في معرفة أوضاع المغرب الاقتصادية وسمحت للفرنسيين والأجانب معرفة ميزان الأداءات ووضعية العمران.
واعتمادا على هذه الأبحاث أساسا ظهر بحث رائد للمؤرخ الفرنسي « J.L.Miège »تحت عنوان " المغرب وأوربا" في أربعة أجزاء حيث درس الجوانب الاقتصادية والعلاقات المغربية الأوربية من زاوية الأزمة واختلال التوازن في هذه العلاقات الاقتصادية.
3-أهم مراحل هذا التأليف:
تطور مراحل هذا التأليف يعكس تطور مراحل التغلغل الإستعماري ويمكن اختصار هذه المراحل حسب المؤرخ " إبراهيم بوطالب" إلى ثلاث مراحل:
-المرحلة الأولى: 1830- 1880.
انصبت الكتابات في هذه المرحلة على اكتشاف المغرب من حيث أنظمته الإجتماعية والسياسية، وهي مرحلة طغت فيها كتابات الضباط أكثر من العلماء، ويمكن تسميتها" بمرحلة التأسيس للغزو".
المرحلة الثانية: 1880- 1912.
عرفت هذه المرحلة تحسنا في الإنتاج كما وكيفا واتضحت فيها بشكل واضح النوايا الإستعمارية أي مقاصد هذا التأليف وأهدافه، فهي كتابات غلب عليها الطابع الإستعلامي، كما أن هذا التأليف أصبح يهدف بشكل منهجي إلى القيام بمسح للمغرب من حيث بنيته الطبيعية والبشرية بمزيد من الدقة وبالتالي أصبح الإلمام بتاريخ المغرب شموليا وأكثر عمقا خلافا للمرحلة الأولى، ومن أهم رواد هذه المرحلة نذكر: شارل دي فوكو، سيكونزاك، أوجين أوبان وBrives.
-المرحلة الثالثة: 1912- 1955
في هذه المرحلة التي تأكد فيها فرض الحماية، وأصبح البحث في تاريخ المغرب ينحى إلى قطاع وظيفي أي مهيكل في مؤسسات، وأصبح هدف الكتابات تبربر مشروعية الاستعمار، بمعنى أن العلاقة بين السلطة والمعرفة أصبحت أكثر وضوحا، فنظرت إلى المقاومة كشكل من أشكال الفوضى السائدة في مغرب ما قبل الحماية.
وخلاصة القول فإن الخطة التي اعتمدت عليها فرنسا بـهدف السيطرة على المغرب ما قبل الحماية قامت على:
- بحث استعلامي.
- تسرب تجاري.
- واعتداء عسكري.
4-نماذج من قراءات هذا التأليف الأجنبي لمغرب القرن 19:
إن حصيلة رصد وتتبع مختلف الكتابات الأوربية وخاصة الفرنسية منها أكدت أنها تدور في فلك ثنائي أو إزدواجي بمعنى آخر اختزال تاريخ المغرب في كونه منقسم غير موحد في بنيته، فهي كتابة نظرية تقوم على منطق ثنائي.
عرب /-/ بربر !على المستوى العرقي.
سهل/-/ جبل ! على المستوى الايكولوجي الطبيعي.
بلاد المخزن /-/ بلاد السيبة! على المستوى السياسي.
الشرع /-/ العرف! على المستوى القانوني.
تبدو هذه القراءة منسجمة من حيث البناء النظري، غير أن خلفيتها الايديولوجية واضحة ومكشوفة فهي تروم التأكيد على أن المغرب كان يعيش وما يزال في فوضى تاريخية شاملة وهذه الفوضى تمثل جزءا عضويا من كيان المغرب، لذلك فالمغرب بلد يحتاج إلى وحدة وحماية. (الحماية الفرنسية).
- الوصول إلى نتائج مسبقة أي أن المغرب لم يكن في يوم من الأيام قادرا على القيام بذاته كدولة قارة لأنه غارق في الفوضى إلى الأبد لولا تدخل دولة أوربية تضطلع بمهمة إدخاله في نطاق الحضارة والتمدن.
هذا لم يكن صالحا فقط لتبرير الغزو بل وظفت مثل هذه التفسيرات بعد الاستيلاء على البلاد لإقناع الرأي العام الأوربي بأن المقاومة التي تواجه المحتلون من طرف القبائل المغربية إنما هي بقية من ذلك المرض الذي جاءت أوربا لاستئصاله.
ما هي صورة المخزن والقبيلة في هذه الكتابات:
تعتبر أغلب الكتابات الأوربية المخزن كمؤسسة طفيلية فرضت نفسها على الشعب، كتمثال ضريبي غايته هي جمع أكبر قدر ممكن من الضرائب أي أن مهمة هذا الجهاز هو الابتزاز المالي ليصرف في تكوين ذلك الجيش، وفي هذا الصدد ومن أجل فرض نفسه اعتمد المخزن على سياسة" فرق تسد بين القبائل".
أيضا تم التركيز في هذه الكتابات على القبيلة، فحينما نتفحص كل هذه الكتابات نجد أن موضوع القبيلة هو الذي شكل الأساس في هذا الكتابات ويمكن تسميتها" بالموضوع المدلل (تركز على ما هو قديم)". فالتركيز على القبيلة ليس سوى حديث يهدف أساسا إلى إبراز الطابع التقليدي والبدائي لمجتمع قابل للرسالة الحضارية التي تكلفت فرنسا بنشرها في المغرب.
إلا أن الحديث عن القبيلة المغربية كان يتم انطلاقا من تصورات المدنية الغربية، والقبيلة رغم كثرة الدراسات التي أنجزت حولها تبقى كموضوع هي جسم فارغ أو هي عبارة عن هيكل عظمي تتصدع فيه الهوية المغربية بمعنى أنه لم ينظر في غالب هذه الكتابات إلى القبيلة المغربية كمفهوم تاريخي قابل للتطور التاريخي، وإنما نظروا أو تعاملوا مع القبيلة كمفهوم انتروبولوجي أي أن الكتابات الأجنبية نزعت إلى إبعاد الجانب التاريخي للقبيلة المغربية في دراساتها، وبالتالي عند الحديث عن القبيلة كثيرا ما نصادف لبسا وغموضا رغم أنها كواقع بسيط يمكن إدراكه معرفيا، لكن هذه الدراسات عقدت موضوع القبيلة، وقد قدمت القبيلة في الكتابات الأجنبية في الغالب في صورتين مختلفتين.
-التصور الأول: تعرف نوعا من التنظيم الذي يتم عن وجود حياة ديمقراطية، وأنها تعيش في وضع مستقر وتستوطن الجبال، وبالتالي تعكس العبقرية المحلية البربرية السابقة عن مجيء العرب والإسلام.
-التصور الثاني:يقدم القبيلة كجحافل من الغزاة استولوا على السهول، وطردوا عنها سكانها الأصليين، وظلوا يعيشون على السطو والاحتلال، ويكونون عماد وقاعدة السلطة المركزية. (إنهم القبائل العربية)، يرى "روبيرمونطاني" أن المجتمع المغربي هو مجتمع قبلي بمعنى أن القبيلة كانت هي أساس المجتمع المغربي، هذه القبائل ذات أصول مختلفة وتعيش في نفس البلد، أي أن المغرب إلى حدود دخول فرنسا عاش في ظل أنظمة قبيلة كمجموعة من العائلات ومجموعة من الأشخاص تربط بينهم مجموعة من الأواصر، ففي دراسته للقبيلة المغربية(روبيرمونطاني) ورصده لتطورها التاريخي كان هدفه هو أن يميز بين الأصول العربية والأصول البربرية للقبائل المغربية.
وبناء على هذا التوجه توصل في أبحاثه حول بعض المناطق إلى القول باختفاء العنصر البربري تحت ظل السيطرة العربية نتيجة عملية الاستيطان لموجة من العربية أفضت إلى انصهار واندماج القبيلة البربرية داخل هذه القبائل العربية، واعتبر القبائل البربرية في علاقتها مع المخزن هي في وضع هامشي أي أن هذه الوضعية تكتسي طابعا سياسيا، فهذه القبائل ترفض السلطة الفعلية للسلطان ولكن تقبل سلطتة الروحية (رفض دفع الضرائب مقابل ذكر اسم السلطان في خطب الجمعة).
رأي أيضا أن القبائل العربية سعت إلى تعريب عدد من القبائل البربرية وبالتالي إلى احتوائها ، بمعنى أن القبائل العربية كانت لها مصالح مشتركة مع المخزن، فكانت هي المساهمة في تموين الوحدات العسكرية، كما كانت تساهم دون أدنى معارضة في تأدية الضرائب، و بالمقابل كانت تحظى بكثير من الامتيازات.
يقول « André Adam »:" إن رواد السوسيولوجيا المغربية Salmon و Doutée وميشوبلير وMouliéras، يعطون صورة للمجتمع المغربي يطبعها لون سائد ألا وهو لون قديم، ألم يعملوا على تقوية هذا اللون لاإراديا وبدون وعي منهم لكي يبرروا ويظفوا مشروعية بداية التدخل الفرنسي".
Bibliographie et critique d’Ethmologie.
وف ذات السياق يقول" الخطيبي" في تقيمه للسياسة العلمية التي نهجتها فرنسا: "بعد استسلام البلاد بالقوة، يجب الشروع في التشييد الذي لا يمكن أن يتحقق إلا بغزو القلوب والعقول، وبهذا يجب إقامة تفاهم أخوي وتعايش سلمي مثمر أساسه إدارة ملائمة ومعرفة دقيقة بالتقاليد والأخلاق".
النظرية الانقسامية.
استمرت عملية التأليف الأجنبي حتى بعد الاستقلال تمثل في الإنتاج الانكلوسكسوني، ومن بين النظريات التي طبقت على تاريخ المغرب في القرن 19 هناك النظرية الانقسامية، وبخصوص البدايات الأولى لتبلور هذه النظرية قبل أن تطبق على المغرب يمكن التأكيد منذ البداية أن رواد هذه النظرية رأوا في المجتمع القبلي المغربي فضاءا خصبا لتطبيق هذه النظرية، ويبدو أن"دوركايم" هو المؤسس الأول للمفاهيم الأولية للنظرية الانقسامية باعتباره أول من استعمل كلمة الانقسامية في دراسته للمجتمعات وتطورها، فأطروحته الأساسية حول المجتمع ترتكز على أن المجتمعات تتطور تدريجيا من مرحلة التضامن الآلي إلى مرحلة التضامن العضوي بمعنى أن التضامن الآلي يكون في حالة تشابه فئات المجتمع، في حين التضامن العضوي يكون في حالة تباين فئات ومكونات المجتمع. ما يثير الإنتباه أن نظرية" دور كايم"كان من الطبيعي أن تحظى باهتمام الكتاب الفرنسيين، غير أن أول من طور مفهوم الانقسامية وطبقه هو إيفانس بيرتشارد" Evans Pittechard" حاول تطبيقها على" قبائل النوير في السودان"، ومن خلال دراسته هاته صاغ نظرية متكاملة التي أصبح يطلق عليها بالنظرية الانقسامية.
الخلاصة أن " دوركايم" هو الذي وضع الأسس النظرية للنسق الانقسامي، واعتبر أن المجتمع القبلي هو مجتمع انقسامي قائم على جماعات أو قسمات متعددة متضامنة ومتصارعة في نفس الوقت.
نموذج للدراسات التي طبقت النظرية الانقسامية على المغرب.
من أبرز الإنقسامين هو « Ernest Guelner »طبق نظريته على المغرب في دراسته لقبائل الأطلس الكبير وسماها " صلحاء الأطلس زاوية احنصال".
دافيد هارت « David Hart »طبق نظريته على قبائل بني ورياغل بالريف، وهناك دراسة أخرى ليس على المجتمع القبلي بل على المجتمع السياسي هي دراسة" جون واتريوري" وسماها " أمير المؤمنين الملكية المغربية ونخبتها".
خاصيات المجتمع الإنقسامي :
*مجتمع ينقسم بصفة لا متناهية إلى عدة قسمات يتكون من مجموعات متشابكة فيما بينها والرابط الذي يربط بين هذه المجموعات هو حبل النسب الأبوي حيث يدعي مجموع الأجزاء الأنتساب إلى جد مشترك، هذه الأجزاء تكون في مستوى من المستويات متصارعة وفي مستوى آخر تصبح متحدة، هذه الخاصية تسمى بالانصهار والانشطار، وهي خاصية تجعل المجتمع المغربي مجتمعا ثابتا لا يعرف الانفجار.
*النظرية الإنقسامية ترى أن هذه القسمات تقوم بوظائف متباينة ولكنها في نهاية المطاف متكاملة تضمن السير للقبيلة وخاضعة لنفس التنظيم.
*المجتمع القبلي يجهل تقسيم العمل بين الأفراد، وبالتالي لا يعرف التراتبية الاجتماعية وتكون فيه سلطة الزعماء محدودة، فهناك إذن نوع من المساواة في مستوى العيش بين تلك القسمات:
*هذه المجتمعات يقوم فيها الزعيم الديني بدور التحكيم بين القسمات المتنازعة فيحول دون تفجير الصراعات، كما يلعب دور الوساطة بين هذا المجتمع القلبي والسلطة المركزية.
ملخص موجز حول مفهوم النظرية الإنقسامية:
ارتبطت المقاربة الإنقسامية أساسا بالأنثروبلوجية السكسونية التي اهتمت بدراسة التشكيلية الاجتماعية السياسية المغربية منذ الحرب العالمية الثانية، ويصح القول بأن النظرية الإنقسامية قد مارست تأثيرا مغريا على الباحثين واعتبرت المجتمع القبلي المغربي نموذجا حيا لتطبيقها، ويبدو أن "دوركايم" هو أول من استعمل مفهوم النظرية الانقسامية لدراسة المجتمعات وتطورها، ثم عرف المفهوم في السنوات الأخيرة تداولا واسعا على يد الباحثين الأنكلوسكسونيين كما تجلى ذلك في أعمال" إرنست كيلنر"، " دافيد هارت" و "واتريوري".
وحسب النظرية الإنقسامية فإن المجتمع يتكون من مجتمعات متشابكة بعضها ببعض، وترتبط فيما بينها بحبل النسب الأبوي، حيث يدعي مجموع الأجزاء الإنتساب إلى جد مشترك، ويمكننا أن نرمز إلى هذه الأجزاء بواسطة مجموعة من الدوائر المتحدة المركزية تتطابق أكبرها على الوحدة القبلية وأصغرها على الفرد، وتقوم هذه الأجزاء بوظائف متباينة إلا أنها تبقى مع ذلك متكاملة وخاضعة لنفس التنظيم.
ومن مميزات البنية الإنقسامية أيضا أن الجماعة الإنقسامية تكون متضادة في مستوى أدنى، وتتحد اتحادا آليا عفويا في مستوى أعلى. والمجتمعات الانقسامية تجهل التراتب الإجتماعي وتكون فيها سلطة الزعماء محدودة وضعيفة، والزعيم الديني(الولي الصالح) يلعب دور الحكم في النزاعات التي نحصل بين القسمات، وهو بذلك يضمن استمرارية المجتمع الإنقسامي المهدد دائما بالانفجار من جراء النزاعات التي تفرزها بنياته.
وأهم الانتقادات التي وجهت للنظرية الانقسامية هي كون هذه الأخيرة تفترض أن القبائل في وضعية تسيب، ولا تعترف بسلطة المخزن الزمنية، وترفض أداء الضرائب، ولا تشارك في الخدمات العسكرية المخزينة، ومن ثم فالجماعات التي تكون متناحرة في المستويات الدنيا تتحد في المستوى الأعلى لمواجهة المحلة أو الحركة. غير أن عدة دراسات منوغرافية لبعض القبائل أثبتت أنها كانت في الغالب خاضعة للسلطة المركزية، وتجلى هذا الخضوع عمليا في وجود ممثلى الجهاز المخزني والمراكز العسكرية المخزنية، كما كان يتجسد في مساهمة معظم القبائل المغربية في الواجبات الجبائية والعسكرية، كذلك تفترض النظرية الإنقسامية وجود مساواة مطلقة الأجزاء. ويمكن أن تجد هذه المقولة ما يزكيها في مجالس جماعات القبيلة، فمبدئيا كانت هذه المجالس مفتوحة أمام جميع الرجال القادرين على حمل السلاح، غير أن الباحث " عبد الله حمودي" يؤكد على انه برصد التركيب الإجتماعي لأعضاء هذه المجالس نجد أقلية ذوي النفوذ الاقتصادي تتحكم في اتخاذ القرارات وبالخصوص فئة كبار الملاك والشرفاء ورجال الدين مقابل العوام. كذلك يمكن رصد التمايز على مستوى القسمة (العظم) حيث يقع التمييز بين الأسر الأصلية والأسر الطارئة، إذ من المعلوم أنه كانت عدة عوامل عبر تاريخ المغرب تدفع الأسر إلى التنقل بين القوى والقبائل كالبحث عن قرية آمنة وهو أمر يحدث في أيام الحروب والفتن، أو لعوامل اقتصادية محضة، أو لعوامل صحية كانتشار الأوبئة الفتاكة والمجاعات، وكانت الأسر التي تضطر لتغيير سكناها تبقى دائما محتقرة ومهمشة لا رأي لها وسط القرية.
ب-التأليف المغربي:
1-تطور الكتابات التاريخية المغربية
هناك نوع من الاجماع بين المهتمين على تطور البحث التاريخي بالمغرب (بشقيه الأكاديمي والعلمي)، فقد حقق نوعا من التطور الكمي والنوعي. هذا التطور ينبني على تمحيص واستقراء لمختلف مراحل تطور الكتابة التاريخية المغربية من جهة، ومن جهة ثانية فإن الاهتمام بالاستغرافية النقدية هو اهتمام حديث بالمغرب. بمعنى أنه من قبل لم تكن تصدر دراسات نقدية تاريخية هدفها هو نقد وتقويم ما ينتج. لكن في السنوات الأخيرة صدرت عدة دراسات نقدية تاريخية هدفها هو نقد وتقويم ما ينتج. لكن في السنوات الأخيرة صدرت عدة دراسات ومقالات راجعت وقومت المنتوج التاريخي المغربي. وفي هذا الصدد لا ننكر وجود بعض الدراسات السابقة عن هذا العهد، نذكر منها كتابات" ليفي بروفنصال" مؤرخو الشرفاء"، هذا الكتاب يعتبر كتابا نقديا للتأليف التاريخي التقليدي بحيث حاول أن يعرف بخصائص ومميزات هذا التأليف التقليدي مثل كتابات" الناصري" – " الضعيف" و" الزياني"، هذا الاهتمام الذي هو في تطور يمكن القول أنه جاء وليد التطور التاريخي العام، بمعـنى أن مؤرخ اليوم أصبح يصادف ويواجه مشاكل لم تكن معروفة في السابق ولم يعشها مؤرخ الأمس يمكن اختزالها في إشكالات معرفية ومنهجية راجعة لتوسع مفهوم الوثيقة وانفتاح الكتابة التاريخية على العلوم الإنسانية الأخرى والتطور الحاصل من حيث استثمار أنواع مختلفة من المصادر، ومرتبطة بمسألة التحقيب ومسألة الاتجاهات.
هذه المعطيات تفسر لنا الاهتمام الحاصل بتطور الكتابات النقدية التاريخية
وإذا أردنا أن نلم بمراحل تطور الكتابة التاريخية المغربية فثمة اختلاف بين المهتمين بهذا الموضوع، فهناك من يحدد مراحل هذا التطور في مرحلتين وهناك من يحددها في ثلاثة مراحل.
قبل ذلك نود أن نبرز الشروط التي ساهمت في انطلاقة الكتابة التاريخية المغربية وتوفير المناخ اللازم لممارستها.
1)-وجود حصيلة هامة من الكتابات التاريخية التقليدية: كتب في مراحل سابقة( حوليات، تراجم وغيرها) أصبحت في متناول الباحث، (عملية طبع بعض المصادر – تحقيقها_(
2)-خلال مرحلة الحماية ظهرت كتب لمفكرين مغاربة، البعض اعتبر هذه الكتابات بأنها تؤرخ للبداية الصحيحة للكتابة التاريخية الحديثة بالمغرب والقاسم المشترك بين هذه الكتابات أنها جاءت على شكل كتابات " منغرافية تقليدية" "المختار السوسي": "المعسول" / محمد بن داوود" تاريخ تطوان" "بوجـندار": "تاريخ رباط الـفتح"، إبن زيـدان" الاتحاف" الكانوني " آسفي قديما"، جل أصحاب هذه المصنفات متشبعين بالقيم الإسلامية ويعدون على حساب التيار السلفي.
3)-وجود خزائن وفتح بعضها، تضم مجموعة من المخطوطات لم تكن متداولة من قبل إما في ملك العام أو في ملك الخاص، بالإضافة إلى وجود رصيد توثيقي هام في الخزانة الحسنية، هذا الرصيد يغطي في مجموعه القرن 19 بالإضافة إلى مجموعة من الكنانش أفادت في ميلاد بحوث تاريخية اهتمت بالمجال الاقتصادي، مثال: "الأمناء" لنعيمة التوزاني، والاعتماد على هذه الكنانش فند زعما كان يؤخذ على الأرشيف المغربي ألا وهو خلوه من لغة الأرقام والإحصاء.
4-القيام بما يسمى بالفهرسة حيث تمت عملية رصد هذه الوثائق وترتيبها في كتب كدليل بيبلوغرافي، وفعلا صدرت 5 فهارس للمخطوطات والوثائق، هذا بالإضافة إلى صدور دورية "الوثائق "من طرف مديرية الوثائق الملكية (عبد الوهاب بن منصور).
5-وجود ركام هائل من الكتابات الأجنبية حول تاريخ المغرب في القرن 19، هذا بالإضافة إلى إمكانية الرجوع إلى الوثائق الأجنبية الخاصة بتاريخ المغرب والمحفوظة في الأرشيفات الأجنبية.
2- مراحل تطور التأليف التاريخي:
*المرحلة الأولى: هي المرحلة الوطنية من 1956 إلى 1976.
*المرحلة الثانية: من 1976 إلى ما بعد 1980 وهي مرحلة وضع الأسس لتاريخ علمي شامل.
أ-المرحلة الأولى: رافقت فجر الاستقلال، وهي تؤرخ لضرورة استكمال الاستقلال السياسي بالاستقلال الفكري أي أن هذه الكتابات كان هاجسها هو الرد على الكتابات الاجنبية، هدفت إلى دحض المقولات الاستعمارية من خلال إبراز عيوب الكتابات الكولونيالية. وفي ردها على هذه الكتابات وجدت نفسها مهتمة بمواضيع معينة مثل التركيز على أقدمية وجود الدولة المغربية، كما سعت إلى إبراز مقومات الشخصية المغربية العربية الإسلامية.
هذه التصورات من الطبيعي أنها ارتكزت وقامت على إعادة قراءة الوثائق والمصادر التي اعتمدتها الكتابات الأجنبية قراءة مغايرة.
ومن مؤرخي هذه المرحلة نذكر" علال الفاسي": " نداء القاهرة" " الحركات الاستقلالية في المغرب العربي" وفي تقديم هذا الكتاب تطرق للرد على ما جاء في كتاب "العصور المظلمة" لكوتيه. و" محمد بن الحسن الوزاني" زعيم حزب الشورى والاستقلال. و" عبد الله إبراهيم" " صمود وسط الإعصار" يرد فيه على بعض الأطروحات الاستعمارية التي قرأت تاريخ المغرب قراءة مغلوطة.
ومن اهتمامات" علال الفاسي" تقييمه لكتاب أحد مؤرخي الجيل الثاني وهو" عبد الله العروي" يقول في مقاله النقدي حول كتاب " تاريخ المغرب":
" كتاب تاريخ المغرب سد فراغا كانت تتوقف عليه المكتبة المغربية، صدوره دليل على أن وعي النخبة المغربية قد اتجه نحو اكتشاف الحقيقة الوطنية عن طريق البحث العلمي في مراحل تاريخ وطننا ككل لا يتجزأ، كمغرب كبير موحد وكاجتماعيات منبثقة من نموذجنا الوطني، وتفاعلاتها مع حضارات الشرق والغرب الوافدة إلينا ومحاولتنا للإبقاء على حضورنا كـأمة لها كيانها الخاص ووحدتها الترابية والثقافية التي تعبر عنها ردود فعلنا الواحدة فرادى وجماعات، إنه عرض تاريخي لا يقصد منه التاريخ بقدر ما يقصد منه إعادة البناء لواقع اجتماعي وسياسي بمقدماته وتناقضاته ونتائجه. لقد بدأ المؤلف الكتاب بمقدمة حلل فيها في الصفحة الأولى ادعاءات الأجانب سوء الحظ الذي رافق المغرب في تاريخه فجعله فاشلا في محاولات بناء استقلاله ووحدته، وقال أن سوء الحظ الحقيقي هو وجود مؤرخين غير أكفاء من الأجانب مع ضعف النقاد والمؤرخين المغاربة، ولم يتم عتق التاريخ ويسجل المؤلف شعوره بأن تجاهل ما يكتبه المستعمرون أو التقليل من أهميته مضر وغير مفيد".
ثم يأتي جيل ثاني في السبعينات من أبرزهم" جرمان عياش" و"عبد الله العروي"، هذان المؤرخان ساهما في تطور البحث الثاريخي وواصلا عملية الرد على الكتابات الأجنبية ودحض كل المقولات الإستعمارية بطريقة علمية مبنية على منطلقات منهجية جديدة وعلى رصيد توثيقي وافر وغني، وكانت هذه الطريقة أعمق من سابقتها، وطبعا هناك اختلاف بين" جرمان عياش" والعروي"في تصوراتهما.
يمكن تلخيص طرح"جرمان عياش " في دعوته إلى إعادة كتابة المغرب من خلال حثه وإصراره على البحث عن مصادر جديدة،في مقدمة هذه الوثائق الوثيقة المخزنية، هذه المسألة لها دلالتها في فهم تصور"عياش" والمنهج الذي سار عليه، فتركيزه على الوثيقة المخزنية هو في العمق يعكس تركيزه على مباحث خاصة بتاريخ المغرب في مقدمتها الاستدلال على وجود الدولة المغربية منذ القدم.
هذا بالإضافة إلى إعادة قراءة المصادر والوثائق التي تم استغلالها من طرف المستعمرين وتوظيفها توظيفا مغايرا. ومن أهم المواضيع التي تعكس المنحى الذي سار عليه" عياش" إبرازه الوظيفة التحكيمية للمخزن، وهو رد ضمني حول الزعم الذي يرى أن دور المخزن كان طفيليا.
ولا يمكن أن نفهم موقف" عبد الله العروي"من إعادة كتابة تاريخ المغرب وموقفه من الكتابات الأجنبية حول هذا التاريخ إلا باستحضار المشروع الفكري الحضاري للعروي. ففي إطار كتابات العروي التاريخية دعا إلى نقد النظريات والآراء الاستعمارية التي يراها مبنية على أسس تاريخية مغلوطة من جهة، ومن جهة أخرى اعتبر الكثير من الآراء الأجنبية هي قائمة على تأويلات مسبقة.
ومن بين المقولات التي يركز عليها "العروي" أن الكثير من الأجانب يقولون بأن المغرب في تاريخه مني بسوء حظ هذا القدر وهو عدم قدرة المغرب على التفكير الكفيل بإخراجه من تخلفه. وفي رد العروي على مثل هذه الأطروحات يقول بأن سوء حظ المغرب لا يكمن في مثل ما طرحته الكتابات الأجنبية، ولكن سوء حظه يكمن في كون تاريخ المغرب كتب من طرف مستعمرين بعيدين عن التاريخ (جواسيس وخبراء...)
من هذه الزاوية يمكن اعتبار كتاب"تاريخ المغرب" مؤشر لمرحلة من مراحل تجديد وتطوير كتابة تاريخ المغرب ويمثل من جهة خلاصة مرحلة فكرية في تاريخ المغرب. والعروي من دعاة تجاوز النقد السادج وضرورة الرد على المستعمر من خلال إنجاز أبحاث علمية مضادة.
ب-المرحلة الثانية: ما بعد السبعينات، تغيرت فيها كثير من الشروط، تتميز بانخراط الجامعة في توسيع دائرة البحث التاريخي وبظهور باحثين ذوي تكوين مختلف عن المرحلة السابقة خصوصا من الناحية المنهجية. ويمكن التمييز بين ثلاث اتجاهات في هذه المرحلة:
-الاتجاه الأول: هو اتجاه تربطه أكثر من صلة بالجيل السابق يمثل نوعا من الاستمرارية ويتمثل في مجموعة من الدارسين، وقد أكد كثير من أصحاب هذا الاتجاه على أن فهم ماضي المغرب يقتضي التركيز والإنطلاق أساسا من ضبط ورصد التاريخ السياسي، وهذا لا يتم إلا من خلال تطور علاقة المخزن بالرعية، كما ركزوا على جوانب مرتبطة بالجانب السياسي مثل كتاب الحماية القنصلية- الأمناء – التنظيمات الحبسية.
الإتجاه الثاني: نزامن مع موجة فكرية ظهرت في العالم العربي الإسلامي والتي تدعو إلى إحياء التراث، الشيء الذي أثر على مواقف هذا الإتجاه.
وأصحاب هذا الاتجاه رأوا أن إعادة كتابة تاريخ المغرب تقتضي التنقيب والبحث عن مصادر قديمة تمت الإشارة إليها في كتب أخرى غير مستعملة، وبالفعل تم الكشف عن مجموعة من المصادر التي كانت موجودة ولم تكن معروفة" كالضعيف" وزهر الأكم"وغيرها ثم نشرها والعمل على تحقيقها الجزئي أو الكامل.
من رموز هذه المرحلة:كنون – محمد بن تاويت – بن سودة(دليل مؤرخ المغرب الأقصى).
الإتجاه الثالث:أصطلح عليه بالإتجاه المنوغرافي الذي كان من أول مؤسسيه"أحمد التوفيق" في دراسته" لقبيلة إينولتان"أصحاب هذا الاتجاه يرون أن أحسن طريقة لإعادة كتابة تاريخ المغرب هي الدراسة الجهوية أي دراسة كل منطقة على حدة في فترة زمنية ومكانية محددة، وهي كفيلة بتخليص المغرب من العموميات، وذلك من خلال الربط بين المستوى الخاص والعام، وهي منطلق ميلاد تاريخ شامل.
إذا أخذنا مثلا أطروحة" بلاد المخزن" و" بلاد السيبة" نلمس أن هذه الثنائية كتبت بطريقة تؤكد نوعا من التقاطع التام بين منطقة خاضعة للمخزن وأخرى غائبة عن هذه السلطة. أما بعد الاستقلال فكثيرا من الباحثين المغاربة ذهبوا إلى إنكار هذه الثنائية جملة وتفصيلا، بمعنى أن المغرب لم يعرف في تاريخه السيبة. أما في مرحلة ثانية لم يعد الرد هو الذي يهم، بل أصبح طرح الأسئلة هو الأهم. ما المقصود بالمخزن؟ ما المقصود بالسيبة؟ هل كانت العلاقة بين المنطقتين واحدة أم مختلفة؟
في خضم هذه المرحلة بدأت تظهر بعض الرؤى المغايرة للمرحلة الأولى التي لا تنفي الثنائية، بل تفسرها، أي لا تنفي واقع السببية بل تقر ضمنيا بوجودها.
فجرمان عياش يلح أن بعض مناطق المغرب شهدت انتفاضات قبلية وضعتها الكتابات الاستعمارية ببلاد السيبة، وهذه الانتفاضات شهدها العالم بأكمله وليس المغرب وحده الذي عرف هذه الظاهرة. وزاد في تفسيره أن التدخل الأجنبي لعب دورا كبيرا في تأجيج الإنتفاضة القبلية.
كما ان " العروي" في تفسيره لهذه القضية يذهب بعيدا فهو يرى أن السيبة مفهوما مخزنيا أصيلا يرتبط بأعراف المناطق القبلية. وأهم من هذا اعتبر السيبة انتفاضة قبلية كواقع تاريخي وهي تعبير عن رغبة النخبة القبلية في المشاركة في تسيير دواليب المخزن المغربي.
أما التيار المنـوغرافي فقـد رأى القضية من زاويـة أخـرى "فأحمد التوفيق" في سياق حديثه عن قضية السيبة وفي بنائه لتصور بديل للطرح الأجنبي فسر الأمر بالرجوع إلى ابن خلدون " بشعاعية وشعاع السلطة"، حيث اعتبر أن حضور السلطة لم يكن متساويا في كل الأطراف (تركز السلطة في المراكز )، فقد تبنى المقولة الخلدونية التي تؤكد انحدار نفوذ الدولة كلما ابتعدنا عن المراكز ، أي تقلص شعاع سلطة المخزن في الأطراف، ومن هنا اعتبر حضورا المخزن في المناطق التي وصفت ببلاد السيبة حضور بتأرجح بين ثلاث وضعيات:
*وضعية شغور ( مكان المخزن غائب)
*وضعية جور(حينما تكون القبائل عرضة للابتزاز المالي)
*وضعية اعتدال (حينما تكون العلاقة طبيعية).
ملخص:
مع فجر الاستقلال وجد المؤرخ المغربي نفسه أمام عدة إشكالات تمحورت أساسا حول كتابه التاريخ المغربي، ولا شك أن الجدل حول التاريخ وكتابته يبقى موضوعا متعدد الجوانب والإشكالات، وملفا مفتوحا سواء من حيث مفهوم الكتابة التاريخية أو من حيث الأدوات والمفاهيم المنهجية لعملية التأريخ، أو من حيث الرؤية التي سوف تتحكم في كل إنتاج تاريخي، ورغم هذه الصعوبات فقد توالت الأصوات الداعية إلى كتابة تاريخ المغرب باعتبار أن تاريخ المغرب الصحيح – طبقا لأكثر من رأي –لم يكتب لحد الآن، فكتابات الأجانب ليست تاريخا يمكن الركون إليه بحكم حمولته الإديولوجية الإستعمارية، بينما يمثل ما كتبه المؤرخون التقليديون رصيدا ناقصا لا يمكن الاكتفاء به. من هنا وجب الشروع في كتابه تاريخ المغرب، على أنه يتعين التأكيد أن تجاوز الكتابة التاريخية المغربية المعاصرة للقصور المنهجي للاستغرافية التقليدية من جهة، ودحض مقولات التأليف الإستعماري لا يعني القطيعة المطلقة مع هذا الإنتاج الكلاسيكي، بل لقد حاول أكثر من باحث اعتماد التأليف المغربي القديم كأساس بالنظر لما يزخر به من مادة تاريخية غنية. وبالرغم من التضييق الذي لقيه التاريخ كحقل للبحث في فترة الستينيات حيث أصبحت الدولة" تنظر بعين الشك والحذر إلى كل تأويل نقدي للتاريخ، بل أكثر من ذلك صار ينظر إلى التاريخ ومعه علوم اجتماعية أخرى كمواد خطيرة يمكن أن تستغل سياسيا لتمرير الأفكار المستوردة.
فقد استطاعت بعض الأسماء تجاوز هذه العوائق وأخرجت إلى النور أعمالا أهم ما ميزها هو حرص أصحابها على إبراز أقدمية وجود الدولة المغربية وأصالتها مع نقد الأطروحات الأجنبية نقدا منفعلا ومتسرعا، ومدفوعين بوطنيتهم في المقام الأول. ومهما حاول البعض أن يجد تفسيرا لهذا المعنى وتبريرا لهذا التوجه بالقول بأن المرحلة هي مرحلة حماس وطني وأنها كانت تتطلب ذلك فإنه" ينبغي أن تظل الوطنية بوصفها معيارا لتقدير الكتابات التاريخية موضع شك القارئ الناقد"
إلا أن بداية السبعينات دشنت منعطفا جديدا في الكتابة التاريخية المغربية بناء على انفتاح الجامعة المغربية الحديثة على تيارات فكرية غربية كان لها التأثير الواضح في مسار تطوير البحث في العلوم الإنسانية عامة وعلم التاريخ خاصة.
وفي ظل هذه التأثيرات الفكرية دون أن ننسى بروز دعوات ترمي إلى التنقيب عن الثرات طرأت تغييرات جذرية فتحت أمام المشتغلين بحقل التاريخ آفاقا واسعة ومجالات بكرا لم تطرق بعد. هكذا حاول البحث التاريخي المعاصر إضاءة جوانب ظلت لزمن طويل غير معروفة رغم ما لها من أثر فعال في تطور تاريخ المغرب.
وإذ كان الهدف واحد وهو إعادة كتابة تاريخ المغرب، فلقد تعددت الرؤى واختلفت الاجتهادات، حيث حاول كل باحث أن يـجدد طبقا لرؤيته، مما يجعل تقييم هذه الإنتاج التاريخي من زاوية معينة أمرا صعبا وشائكا، فيكاد يجمع الكل على أن الاستغرافية المغربية المعاصرة قد حققت تطورا نوعيا سواء من حيث الكم أو الكييف، إلا أن البعض بتحفظ في الحديث عن وجود مدرسة تاريخية مغربية ذات ملامح متميزة وخاصة، لكن هذا لا يمنع من رصد بعض سمات هذا الانتاج التاريخي وإن غلب عليه طابع التجريب والتشتيت، بمعنى تعدد اتجاهات البحث في غياب استراتيجية عقلانية تهدف تحديد كتابة التاريخ بشكل يوازي تحديث المجتمع على حد تعبير عبد الله العروي، ومع ذلك يمكن تحديد أهم هذه الاتجاهات:
1-اتجاه حاول إعادة الاعتبار للتاريخ المغربي من خلال إحياء التراث عبر التنقيب عن الوثائق والنصوص وضبط سياقها التاريخي الصحيح.
2-اتجاه يؤكد على ضرورة ضبط التاريخ المغربي بالعودة إلى إعادة قراءة الوثائق التي اعتمدها المؤرخ الاستعماري، مع البحث عن وثائق جديدة والمخزنية منها بالخصوص.
3-اتجاه يرى ضرورة تجاوز النقد الساذج والقيام بنقد إبستملوجي مع محاولة تأسيس الكتابة التاريخية التركيبية.
4-حاول هذا الاتجاه التدقيق في الكتابة التاريخية من خلال إنجاز منوغرافيات أو بحوث تجريئية تدرس الموضوع زمانيا ومكانيا في أفق تكثيف نتائج هذه الاعمال وتركيبها في إطار بحوث شاملة.
ويبقى التساؤل حول الكيفية التي تم بها التعامل مع الاستغرافية التقليدية: هل يرفض رواد البحث التاريخي المعاصر في المغرب الانتاج التقليدي لقصوره المعرفي المنهجي، أم يدعون إلى التجديد بالارتكاز على نتائجه رغم ثغراته؟
يمكن التمييز في هذا الإطار بين تصورات مختلفة تختلف في المنطق وتتفق في الهدف، وسنقتصر على نموذجين:
فالباحث " جرمان عياش" يؤكد أن" ما كتبه المؤرخون التقليديون ناقص لا يمكن الوثوق به " ويضيف في مقال آخر " ففيما يتعلق بالقرن 19 نتوفر على مجموعة من الكتب إما مخطوطة أو مطبوعة لبعض الرواة كالناصري مثلا، لكن هذه الكتب لا تكفي، لأن الراوي لا يهتم آنذاك بالتعمق في الأحداث، ولا يهتم إلا بما يخرق العادة" فالأستاذ" جرمان عياش" يؤكد على النقص والقصور الذي يطبع التأليف التاريخي التقليدي ويرفض طريقة تعامل المؤرخ الراوي مع الوثيقة والحدث.
ويبقى أهم تعامل مع الاستغرافية التقليدية كمادة لمعرفة الوقائع هو الذي جسده المؤرخ" عبد الله العروي" باعتباره من الباحثين القلائل الذين أعادوا النظر في طريقة تناول التأليف التقليدي، يقول " العروي": إن الكتابة التاريخية كتابة الناصري، ابن زيدان، المختار السوسي ومحمد داوود لا يمكن أن تتجاوز مادامت حدودها قائمة، ولكن تلك الحدود هي المفاهيم المعتمدة فيها: الحقبة، الحدث، الوثيقة ما دمنا ندرس نفس المواضيع في نفس السيرورة الزمنية معتمدين على نفس الوثيقة".
"فالعروي" إذن يختار كما أكد أحد الباحثين توظيف الاستغرافية لدراسة تصوراته، وبما أن التأليف التقليدي اهتم بالحكام، فإن" العروي" يحاول أن يستنطق النصوص قصد الوصول إلى معرفة أشكال حضور مسألة السلطة في ذهنية المؤرخين القدامى.
وكل هذا وذاك لا يعني القطيعة المطلقة مع الانتاج الكلاسيكي بقدر ما هو تعبير عن الرغبة في اعتباره كمنطلق لتقعيد عملية البحث التاريخي في إطار الدعوة إلى إعادة كتابة تاريخنا المحلي.
وللتلخيص نورد هنا رأي أحد الباحثين" أحمد التوفيق" الذي رصد خصائص ومميزات الاستغرافية المغربية الجامعية الناشئة فيما يلي:
-الاهتمام بالقضايا لا بمجرد سرد الأحداث السياسية وعدم الاقتصار على الوصف.
-النظر إلى الماضي لا في إطاره الزماني بل في إطاره المحلي سعيا إلى وضع قواعد يمكن أن نبني عليها تاريخا وطنيا حقيقا.
-تحويل الاهتمام عن الأحداث السياسية ذات البعد الوطني إلى الحركة الداخلية للقوى الاجتماعية أي الاهتمام بالعناصر التي كانت أساس الحياة السياسية والجماعات التي نشأت فيها قوة التغيير والاستمرار.
-تبني الجيل الجديد من المؤرخين لنماذج وتقنيات جديدة.
الحدود المغربية أقل ما يمكن من طلقات البنادق وأكثر ما يمكن من النشاطات الاقتصادية والسياسية.
جوانب من مسلسل التوسع الأجنبي
بمغرب القرن 19
مقدمة عامة:
تفيد عبارة تاريخ المغرب في القرن التاسع عشر الإحالة على مجموع الوقائع والتحولات التي شهدها المجتمع المغربي على امتداد الفترة الزمنية التي تبدأ باحتلال فرنسا للجزائر 1830 وتنتهي بتوقيع الحماية سنة 1912، ومدار هذه الوقائع ينتظم ضمن مستويات مسلسل التوسع الإمبريالي الأوربي الذي أخضع الكيان المغربي لضغط ممنهج اعتمد أساليب متنوعة ومتداخلة تجمع بين:
*الضربات العسكرية التي تستهدف إفقاد هذا الكيان وسائل دفاعه. وإفقاده كل ثقة بالنفس.
*المعاهدات التجارية اللامتكافئة باعتبارها تمثل أداة فعالة لتوطيد ركائز التغلغل الاقتصادي وتأمينه داخل المغرب.
*مواكبة هذه الضغوطات بالإقدام على الاقتطاع التدريجي لعناصر من السيادة المغربية.
وإذا كان المغرب قد تمكن من الحفاظ على استقلاله إلى نهاية القرن فمرد ذلك راجع لتنافس الدول الأوربية وتضارب سياستها إزاءه من جهة، وإلى سياسة المخزن في استغلال هذا التنافس لصيانة استقلال البلاد من جهة ثانية، لكن التدخل الأوربي نال في الواقع تدريجيا من قيمة هذا الاستقلال.
وقد كان من الطبيعي أن يولد هذا الضغط الأجنبي ردود فعل داخلية متباينة ومتفاوتة في طبيعتها وتوجهاتها من لدن القوى المؤطرة للمجتمع المغربي.
وعليه فإن دراسة مراحل التدخل الأوربي وأشكاله ونتائجه على حياة البلاد ومواقف القوى المختلفة تجاه المغرب وردود فعل المغرب وسياسته، كل هذا يشكل الموضوع الرئيس لتاريخ المغرب في القرن 19.
الوضعية إلى سنة 1830:
ظلت العلاقات بين المغرب وأوربا قائمة منذ العصور القديمة بحكم التقارب الجغرافي، واتسمت هذه العلاقات دوما بحركة مدها وجزرها، تتغير بتغير ميزان القوى وشروط الوضع الدولي والمتوسطي، فقد تكتسي طابعا توسعيا في حالة رجحان الكفة لأحد الطرفين. وقد تتخذ شكل مبادلات تجارية ودبلوماسية سليمة حينما يتكافأ وزن الطرفين.
وإذا كانت هذه العلاقات قد بدأت تفتر منذ السنوات الأولى من القرن التاسع عشر بسبب سياسة الاحتراز التي نهجها المولى سليمان، فليس معنى ذلك أن اهتمام الطرفين ببعضهما قد انقطع، بالعكس سيعرف مستوى العلاقات بعد هذا الفتور النسبي- تطورا سريعا تمثل في تكاثف حجم هذه العلاقات. تم ما ترتب عنه من تغييرات عميقة في الاقتصاد والمجتمع المغربيين، ولم تكن سياسة الانعزال التي سلكها المولى سليمان هي السبب الوحيد في هذا الفتور، بل إن ما يغفل عنه في غالب الأحيان هو أن صلة المغرب بالدول الأوربية في عهده كانت إلى حد بعيد رهينة بالوضع في أوربا نفسها. فأوربا المنشغلة بالصعوبات الداخلية الناجمة عن الثورة الفرنسية وحروب نابليون الطويلة (1792-1814) لم تعد تهتم بالمغرب. وقد تجلى هذا التراجع في ضآلة المبادلات وضعف التمثيل القنصلي الذي انحصر في طنجة وإغلاق عدة موانئ في وجه الأجانب، وقلة عدد الأوربيين المقيمين بالمغرب، ومنع المغاربة من الذهاب إلى أوربا. غير أن تولية المولى عبد الرحمان الحكم 1822 قد فتحت عهدا جديدا، فالمعاهدات الموقعة مع البرتغال سنة 1823 ومع انجلترا سنة 1824 ومع فرنسا وسردينيا سنة 1825 تظهر حسن استعداد السلطان. لكن الاحتياجات المالية وفكرة الجهاد أحيت من جديد حركة القرصنة، إلا أن ردود فعل القوى المعنية وظهور تفوقها البحري حول أنظار المغرب عن البحر وإعادته إلى اتباع سياسة العزلة. يقول الناصري في هذا الصدد "واعلم أن هذه الوقعة (بين الأساطيل المغربية والإسبانية بالعرائش) هي التي كانت سببا في إعراض السلطان عن الغزو في البحر والاعتناء به، لما أراد إحياء هذه السنة صادف إبان قيام شوكة الفرنج ووفور عددهم وأدواتهم البحرية وصار الغزو في البحر يثير الخصومة " الجـزء 9 ص 24 – 25.
غير أن مثل هذه السياسة (العزلة) لم تعد ممكنة، ذلك أن جملة من العوامل قوت من اهتمام أوربا بالمغرب. وهو اهتمام ناتج عن الأهمية التي تكتسيها القضايا المتوسطية في العلاقات السياسية بين القوى الكبرى.
الانتكاسات العسكرية:
إن الاحتلال الفرنسي للجزائر قد أخل بالتوازن في حوض البحر المتوسط وهدد وضعية بريطانيا العظمى. كما مثل تهديدا مباشرا للمغرب باعتباره أخطر ما واجهته البلاد بعد ثماني سنوات من تولية السلطان مولاي عبد الرحمان. ذلك أن هذا الاحتلال قد أدى إلى تطويق المغرب وعزله عن آفاقه الطبيعية والتاريخية. وجعل واحدة من أبرز القوى الاستعمارية في القرن 19 جار مباشرا له.
الشيء الذي جعل أمنه واستقلاله عرضة لأخطار محدقة حيث بدا واضحا أن احتلال الجزائر لم يكن سوى مرحلة أو خطوة في أفق إتمام السيطرة الفرنسية على مجموع شمال إفريقيا. لذا كان من المتوقع أن يحدث نزاع بين الفرنسيين والمغاربة خصوصا بعد المساعدات التي قدمها المغرب للأمير عبد القادر الذي كان يتزعم مقاومة الغزو الفرنسي لبلاده. فالسلطان المولى عبد الرحمان لم يستطع أن يتجاهل نداء سكان تلمسان، ولا أن يرفض دعمه لعبد القادر، ولا أن يبقى مكتوف الأيدي أمام غارات القوات الفرنسية على المغرب الشرقي، مما سبب في أول مواجهة عسكرية مباشرة منذ معركة وادي المخازن، حيث تمكنت قوات المارشال"بيجو" من سحق الجيش المغربي بقيادة سيدي محمد ابن السلطان في معركة لم تستغرق أكثر من أربع ساعات (28 رجب 1260 هـ/ 14 غشت 1944) وأعقبها قصف الصويرة بعد أن كانت طنجة قد تعرضت لقصف مماثل قبل معركة إيسلي بأيام قليلة (8 غشت) بقبول السلطان صلحا(اتفاقية طنجة 10 مارس 1944) بمقتضاه يتعهد بعدم مساندة الأمير عبد القادر وطرده من التراب المغربي. وتم تركيز هذا الصلح بعقد معاهدة للامغنية (18 مارس 1843)التي تعين الحدود بين المغرب والجزائر. وجاءت بنودها غامضة لأغراض استعمارية.
*لقد كانت هزيمة إيسلي حدثا تاريخيا بارزا باعتباره دشن مرحلة جديدة في تاريخ المغرب الأقصى.
*وقعة إيسلي لم تكن في الواقع موجهة فقط من قبل فرنسا ولكنها موجهة باسم سائر الدول التي كانت تعاني من صمود المغرب.
*وضعت الرصيد المعنوي للمغرب محط التشكك وفتحت المجال للأطماع الاستعمارية في البلاد.
*كانت معركة مشؤومة هدت كيان الدولة المغربية وشمتت فيها أعدائها، وأبانت عن مدى ضعف المؤسسة العسكرية وضعف جيشها المدافع عن حوزتها وعن عدم استعداده لخوض غمار حرب ضد دولة أوربية حديثة هي فرنسا.
وإذا كانت فرنسا قد دشنت سياستها العدوانية ضد المغرب بمعركة إيسلي فلا غرابة أن نرى إسبانيا التي كانت تحتل سبتة ومليلية وجزر كبدانة أن تحاول الظهور في الميدان لتثبيت وجودها في المنطقة. ولتؤكد للمغرب وللدول الأوربية قدراتها وإمكانياتها حتى تفرض هذا الوجود.
وهكذا لم تمض بضع سنوات على هزيمة إيسلي وبالذات في آخر سنة من حكم السلطان عبد الرحمان حتى نشهد إسبانيا تتذرع بحادث حدود سبتة لتشهر الحرب على المغرب. فقد عمد الجيش االاسباني بسبتة إلى بناء قلعة حربية حول المدينة بالحجر والطين بدلا من الخشب كما كانت العادة المتفق عليها، مما أثار احتجاج قبائل أنجرة المجاورة للبناء الجديد، فتصدت للبناء وهدمته ونجست الراية التي نصبت عليه حسب ادعاء حكومة مدريد، عندئذ انتهزت الحكومة الإسبانية الفرصة وأمرت حاميتها المعسكرة في سبتة بالتوغل داخل التراب المغربي لمعاقبة قبيلة أنجرة انتقاما للشرف الإسباني. فقابل الانجربون القوة بالقوة، ودارت بين الطرفين معارك تلتها من إسبانيا مطالب مشتطة رفضها المغرب(إعدام 12 شخص من أنجرة اعتبروا مسؤولين عن الحادث- الاعتراف لإسبانيا بالحق في القيام بكل ما تراه لازما لسلامة مدينة سبتة)، ولم تفض جولة المحادثات الدبلوماسية ولا وساطة إنجلتر إلى حل سلمي. فانقطعت المفاوضات وأعلنت إسبانيا الحرب على المغرب (22 أكتوبر 1859) المعروفة بحرب تطوان.
وبعد أربعة شهور من المعارك تم احتلال تطوان فطلب السلطان حينئذ الصلح، تم الاتفاق على شروطه الأساسية في 25 مارس 1860، وبتاريخ 26 أبريل 1860 أمضى الطرفان المعاهدة النهائية والتي نصت على توسيع رقعة الاحتلال الإسباني في سبتة ومليلية. والتنازل لها عن حق الصيد في المياه المغربية الجنوبية، والتزم المغرب بعقده معاهدة تجارية مع إسبانيا والترخيص لها بإنشاء بعثة قتصلية لها بمدينة فاس. كما نصت على فتح الباب للمبشرين الإسبان على أن أقسى شروطها هي تأدية المغرب لتعويضات حربية باهضة سيضطر إلى الاستدانة من إنجلتر لتسديد نصفها في حين أن النصف الآخر سيقتطع من مداخيله الجمركية طيلة ربع قرن.
وترتبت عن هذه الهزيمة أزمة مالية خانقة أدت إلى إفراغ الخزينة المغربية كما اعترف بذلك السلطان محمد بن عبد الرحمان نفسه في أوائل سنة 1861 بعد تأدية أول دفعة من دفعات الغرامة الحربية"...دفعنا ما كان عندنا ببيت المال هنا بفاس وما كان ببيت مال مراكش حتى لم يبق تحت يدنا إلا ما نقضي به حاجة مع الجيش إذ لا يمكن صبرهم على الخدمة والجوع والعرى ومع ذلك فهو قليل لا يقنعون به".
ولقد أبرز المؤرخ جرمان عياش في دراسة قيمة أهم جوانب هذه الأزمة وذيولها. لقد كانت حرب تطوان أسوأ أثرا مما قبلها في تعزيز النفوذ الاستعماري في البلاد، وإفقادها ما بقي لها من الاعتبار، وأحدثت هزة عنيفة في الشعور العام لدى المغاربة، يقول الناصري موضحا عواقب هذا الحدث"...ووقعة تطاوين هذه هي التي أزالت حجاب الهيبة عن بلاد المغرب واستطال النصارى بها وانكسر المسلمون انكسار لم يعهد لهم مثله وكثرت الحمايات ونشأ عن ذلك ضرر كبير..".
وخلاصة القول أن هزيمتي إيسلي وتطوان قد سجلتا بداية مسلسل من النكسات اللاحقة زعزعت المعطيات السياسية والعسكرية والاقتصادية ومهدت الطريق للاستعمار.
المعاهدات التجارية:
إضافة إلى الضغط العسكري، بدأ مسلسل الضغط الاقتصادي الأوربي بإرغام المخزن على التوقيع على اتفاقيات غير متكافئة تستهدف إرساء الدعائم الثابتة للتسرب الأوربي. وإلى حدود بداية القرن التاسع عشر كانت جميع معاهدات السلم والصداقة المبرمة من طرف المغرب مع قوى مختلفة تقضي التعامل بالمثل بين دول متساوية ذات سيادة. ولم يكن بها أي مساس بحرية تصرف المخزن في الشؤون الاقتصادية، بل كان المخزن حريصا على أن لا يضيع من قبضته زمام المبادرة في شؤون التجارة مع الأوربيين وذلك بالزيادة والنقصان في الرسوم الجمركية حسبما تقضيه مصلحة البلاد، إلا أنه مع بداية النصف الثاني من القرن التاسع عشر سيتغير مضمون هذه الاتفاقيات، وهي الحقبةالتي تميزت بظهور النظريات التوسعية في أوربا، والدعوة إلى السيطرة والاستيلاء تلبية للضرورات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت ملحة في عدة دول أوربية.
إن هذه الاتفاقيات بما نصت عليه من امتيازات باهضة للتجار الأجانب قد وجهت ضربة عنيفة لاختصاصات السلطان وأضعفت قدرة المخزن على الصمود أمام الغزو الامبريالي بأن حرمته من حرية التشريع الجمركي. ولقد سمح بند" الأمة ذات الأفضلية" لجميع الدول التي عقدت معاهدات مع المغرب بالتمتع بما نصت عليه الاتفاقية الإنجليزية المغربية بتاريخ 9 ديسمبر 1856.
*اتفاقية 1856
منذ سنة 1846 اجتهدت بريطانيا للحصول على تغيير في الاتفاقيات الموجودة فقد كان يهمها أن تزيد من مبادلاتها مع المغرب، لكن مع التأكيد على نفوذها في البلاد، فحجم المبادلات وعدد أفراد الجالية عاملان مهمان في اللعبة الدبلوماسية للقوى الاستعمارية، وكان يهم انجلترا كذلك أن تعوض بالزيادة في المبادلات البحرية تصاعد النفوذ الذي يمكن أن تحصل عليه فرنسا باحتلالها للجزائر، وبالفعل فالمغرب في هذه الفترة كان موضوع مجهودين متعارضين يهدفان إدخاله في تيار أوسع للمبادلات، والمجهود البريطاني يعارضه مجهود تجار منطقة وهران الذين يريدون جعل الجزائر مستودعا للمنتوجات الفرنسية الموجهة إلى المغرب، ويطالبون بإزالة الحواجز على التجارة البرية.
والمخزن الذي كان واعيا بأخطار إطلاق حرية التجارة الخارجية وبالمشاكل التي يمكن أن تنجم عن ذلك في داخل البلاد، والتعقيدات التي قد تنشأ مع القوى الأجنبية إذا منح امتيازا لأحدهما، قد صمد لمدة طويلة، لكن لم يكن المخزن بمقدوره سوى الاعتماد على الحنكة الدبلوماسية. وذلك بمحاولة اللعب على الصراعات بين القوى المختلفة، وطالما بقيت هذه القوى متنافسة فإن مولاي عبد الرحمان استطاع التملص من المفاوضات. لكن ابتداء من سنة 1853 وعندما فتحت إسبانيا وفرنسا دعمها لإنجلترا وجد السلطان عبد الرحمان نفسه أمام حلف يضم كل أوربا، وأصبحت كل إمكانيات الصمود مستحيلة، والمفاوضات التي بدأت في مارس 1853 انتهت بتوقيع السلطان في دجنبر 1856 على اتفاقية عامة من 38 فصل ألحقت بها اتفاقية للتجارة والملاحة، وقد حصلت إنجلترا على عدة امتيازات. ذلك أن الاتفاقية الملحقة تقيم الحرية المطلقة للمبادلات، وتلغي معظم الاحتكارات. كما تم إخضاع حق إقامة الحواجز على صادرات الحبوب لإعلام مسبق، وتقيم حقوقا رسوما جمركية بنسبة 10% من قيمة المنتوج عند الاستيراد. كما اعترفت للرعايا البريطانيين بحق الملكية وأعفتهم من جميع الضرائب والرسوم الجمركية، وفي ميدان القضاء تم الاتفاق على خضوعهم لقوانيين بلادهم. فالحالات التي تهم فقط رعايا بريطانيين تكون من اختصاص قتصلهم، مما يعني أن القضايا أصبحت تسحب من القضاء المحلي لفائدة القضاء القنصلي.
لقد شكل توقيع هذه المعاهدة مسا خطيرا بالبلاد، ذلك أن مراقبة التدخل الأوربي أفلتت من يد المخزن، ففي صراعه ضد الإمبريالية الأوربية فقد المغرب واحدا من أهم أسلحته ألا وهو التشريع الجمركي، كما تخلى عن حقوقه القضائية تجاه الأوربيين وعن جزء من رعاياه.
والامتيازات التي حصل عليها الأوربيون مقترنة بتفوق تقنياتهم وأهمية رؤوس الأموال التي يتوفرون عليها ستسمح لهم بالاستحواذ على معظم التجارة البحرية وجعل المغاربة وسطاء فقط، كما أن الاتفاقية تكرس أولوية النفوذ البريطاني بالمغرب، وتشير إلى نجاح التدخل الأجنبي في المغرب، وانضمام بلجيكا وسردينيا والبرتغال والبلدان المنخفضة إليها يجعل منها ميثاقا يحدد العلاقات بين المغرب وأوربا. بيد أن إسبانيا وفرنسا قد اعتبرتا المعاهدة غير كافية لأنها تتضمن رسوما مرتفعة على الصادرات، ولا تعطي أية ضمانات للمحميين، لذلك أعلنتا تشبتهما باتفاقياتهما مع المغرب مع الاستفادة مما ورد في المعاهدة الجديدة.
لقد أخلت معاهدة 1856 بالتوازن لصالح بريطانيا وبالتالي ساهمت في إذكاء النزاعات بين القوى الثلاث المهتمة بالمغرب ودفعت إسبانيا وفرنسا للمطالبة بامتيازات جديدة تفرز الوضع لصالحهما.
*اتفاقية 1861 مع إسبانيا
لقد كان من شروط الصلح مع إسبانيا إثر حرب تطوان إلزام المغرب بتوقيع معاهدة تجارية مع إسبانيا، وفعلا أمضيت هذه المعاهدة في 20 نونبر 1861 متضمنة 60 فصلا، وتتيح هذه المعاهدة حق الملكية العقارية للرعايا الإسبان، وتفتح أمامهم موانئ المغرب ومصايده الساحلية وتحدد حقوق التصدير، وتؤكد حق الحماية الإسبانية للرعايا المغاربة.
*اتفاقية 1863 مع فرنسا
إن التحفظات التي أبدتها فرنسا تجاه معاهدة 1856 وخصوصا فيما يتعلق بمشكلة الحماية القنصلية تفسر جزئيا طلبها بإبرام اتفاقية جديدة، لكن يدخل في الاعتبار أيضا حاجة رجال الصناعة للتزود بطريقة أكثر سهولة بالصوف من المغرب في وقت ندرت فيه هذه المدة وارتفع أثمان ألياف النسيج الأخرى، وفي الوقت كذلك الذي منع فيه السلطان الوسطاء الأوربيين من شراء الصوف من الأسواق بالداخل. إرضاءًَ للرأي العام الذي حمل مسؤولية ارتفاع أثمان الصوف للاستحواذ الأوربي. فاحتياجات السلطان محمد الرابع المالية، وروحه الإصلاحية، ورغبته في تسوية مشكلة الحماية القنصلية والصعوبات السياسية، كلها عوامل تفسر السرعة التي تمت بها المفاوضات حول اتفاقية يبدو أن أبعادها الحقيقية غابت عن المخزن. لقد كانت من أخطر المعاهدات التي وقعها المغرب مع أوربا في القرن الماضي. ويكفي أن نورد ما كتبه المؤرخ جون لوي مييج في كتابه "المغرب وأوربا" عنها للنتأكد من خطورتها " لم يسبق للمخزن أن أبرم وفقا ذا عواقب خطيرة كهذا، والسبب في ذلك يعود إلى غلط في تقدير الوقت ووزنه أكثر مما يرجع إلى خطورة الوضع السياسي...".
لقد حققت هذه الاتفاقية التي وقعها محمد بركاش مع الممثل الفرنسي بكلارد في غشت 1863، عدد المحميين في اثنين لكل تاجر وبكل ميناء. ويعفون من جميع الضرائب ولا يخضعون مطلقا للقضاء المغربي. كما تنص على منع توقيف المغاربة الذين يعملون في الاستغلاليات القروية بدون سبق إعلام القناصل. لقد كان الهدف من الاتفاقية هو وقف مساوئ الحماية والحد من التدخل الأوربي لكنها في الواقع حولت عن هدفها الأصلي لتصبح إحدى أسس هذا التدخل. وبإضافتها إلى الاتفاقيات الموقعة سابقا مع القوى الأخرى تكون قد فتحت أبواب المغرب على مصراعيها للانتشار الأوربي والاحتكارات الأوربية وامتيازاتها على حساب أهل البلاد، وظهير (4 يونيو 1864) الذي يعلن حرية التجارة داخل كل الدولة الشريفة لم يعمل إلا على إضفاء الشرعية على وضعية أصبح لا مفر منها بسبب أربعيين سنة من الضغوطات الأوربية.
لقد وضعت هذه الاتفاقيات الأسس القانونية لعلاقات المغرب مع أوربا، ومنذئذ أخذ نفوذ أوربا يتصاعد دون أن يستطيع المخزن إيقافه، وازدادت تبعية المغرب لأوربا أكثر فأكثر.
الحماية القنصلية
يعود أصل هذا النوع من الحماية إلى الامتيازات القضائية والجبائية التي كان بتمتع بها الرعايا الأجانب بموجب المعاهدات اللامتكافئة التي عقدها المغرب مع دولهم، وخاصة معاهدة 1863 مع فرنسا حيث نصت إحدى بنود هذه المعاهدة على توسيع الامتيازات الجبائية والحماية القنصلية لتشمل بعض الرعايا المغاربة يهودا ومسلمين من موظفين في القنصليات وسماسرة دور التجارة والشركاء الفلاحين، وهكذا أصبحت فئة المغاربة تتمتع بكثير من الامتيازات التي يحرم منها بقية المواطنين المغاربة لا تطالها قوانين البلاد وخارجة عن سلطة المخزن، وقد شكل هؤلاء بفضل الحصانة التي يتمتعون بها عملاء لتغلغل القوى الأجنبية. وكما أكد أحد الدارسين فلقد كانت هذه الحماية في الواقع إجحافا يقوم على تخليص رعايا مغاربة من سلطة عاهلهم بحيث أنهم يتحررون من الواجبات الضريبية مما ساهم في إضعاف مداخل الخزينة المغربية، ولا يتابعون قضائيا عن جرائمهم ونهكهم للحقوق مما أدى إلى تردي الأوضاع الأمنية في البلاد، وأصبحوا بيد الحامي معولا لدكّ صرح الدولة المغربية.
وقد كان تزايد عدد المحميين يتناسب مع عدد الأوربيين (انظر النص) فمن جهة عمدت الدول صاحبة الامتيازات خاصة فرنسا وإسبانيا إلى الإسراف في منح الحماية منتقية محمييها من أغنياء المغاربة وأكثرهم نفوذا في منح الحماية لتستفيد من مراكزهم وعلاقاتهم في تنمية تجارتها وتوسيع نفوذها، ومن جهة ثانية كان طالبي الحماية يبذلون من أجل الحصول عليها أموالا باهضة لأجل أن يحصلوا على أكثر منها بعد ذلك بطرق غير مشروعة، وقد وصلت الوضعية من التفاحش لدرجة أن بعض الأجانب فتحوا مكاتب للوساطة في الحصول على الحماية. وكانوا يتقاضون مقابل ذلك أموالا يتقاسمونها مع بعض القناصل، ولقد أعطى وزير إيطاليا المفوض في طنجة للحماية القنصلية أصدق وصف بقوله: "إنها مادة تجارية تباع لأكبر مغال في الثمن".
وإذا كان من المتعذر إحصاء عدد المحميين إحصاء دقيقا نتيجة التوسع والتزوير في منح بطاقات الحماية، فإنه تكفي الإشارة إلى بعض الحالات الدالة على أن معضلة الاحتماء بالأجنبي كانت تسدي لسياسة تخريب المغرب من الداخل كل التسهيلات، فممثل بريطانيا مد حمايته القنصلية على قرى بكاملها في المناطق التي يصطاد فيها، وممثل الولايات المتحدة الأمريكية كان له ثلاثمائة محي بطنجة، ولما كانت الحماية تشمل الشخص المحمي واهله وأقاربه وشركائه فإنها امتدت إلى عشرات الآلاف من الرعايا المغاربة إلى درجة جعلت دريموند هاي يقول" إن السلطان قد يفيق ذات صباح فيجد نفسه بدون رعايا". لقد ضرب توسع الحماية القنصلية سلطة المخزن الذي فقد سيطرته على جزء من رعاياه، وكمثال على هذا التجاوز أن أحد المحميين يدعى أحمد الدكالي تم توقيفه بسبب رفضه تسديد ديونه ولتزويره عقود ملكيته، أطلق سراحه أمام التدخل عن طريق التهديد الذي قام به القائم بأعمال إيطاليا، أما استفزاز المحميين اليهود – كما أوضح جرمان عياش –،فلا تعد ولا تحصى منها أن المدعو كوهن سب علانية محتسب مكناس، ومرة أخرى تعرض قاضي فاس وهو من كبار شخصيات الدولة للشتم من طرف يهودي محمي ومع ذلك لم يكن بالإمكان القيام بأي رد فعل إزاء هذه الاهانات اللهم إلا توجيه ملتمس إلى سفير فرنسا القادر وحده على زجر محمييه إن أراد. وتظهر هذه الأمثلة من بين عدة حالات أن المحمي يمكنه الوقوف في وجه المخزن مهما كانت أخطاؤه، وباستطاعته ارتكاب كل المظالم دون أن يخاف من العقاب، وكانت هذه الممارسات التعسفية تخلق موجة من السخط والتذمر وسط السكان، ومثار عدة اضطرابات وحوادث كثيرا ما كانت تنتهي بأداء المخزن تعويضات فادحة..
لقد شكل انتشار الحمايات وما تلاه من تدخل فاحش في شؤون البلاد الداخلية، وتضخيم لأدنى حدث وانتزاع التعويضات المالية الباهضة من المخزن أحد العوامل الأساسية التي أدت إلى اختلال التوازن داخل المجتمع المغربي واضمحلال الهياكل المخزنية وتعدد الاضطرابات واستحالة كل عمل للنهوض.
جهود المخزن:
لقد حاول السلطان المولى الحسن جاهدا منذ توليته حل مشكل الحماية القنصلية، وظل يرفض المفاوضة حول أية قضية ما لا تحد فوضى حماية الأشخاص باعتبارها أصل كل المشاكل التي كانت تثار بين المغرب والقوى الأجنبية، ففي ماي 1876 بعث سفارة برئاسة الحاج محمد الزيدي إلى بريطانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا لجلب اهتمام الحكومات الأوربية إلى أضرار ومخاطر الحماية القنصلية ولم يحصل السفير المغربي على أي التزام محدد.
لقد دامت المحاولات الرامية لوضع حد للحماية قرابة خمس سنوات ابتدأت بطنجة (1877 – 1880) وانتهت بمدريد.
ففي 10 مارس 1877 قدم نائب السلطان محمد بركاش مذكرة إلى النواب الأوربيين في طنجة تعرض مآخذ المخزن على الحماية القنصلية، وتنص على الإصلاحات الواجب إدخالها، كما تطالب بعقد مؤتمر تدرس فيه مشكلة الحماية التي تسبب مضرة خطيرة للسيادة الترابية وللموارد المالية وللإدارة والقضاء في بلاد السلطان.
وقد بدأت المفاوضات بطنجة في 9 يوليوز واستمرت إلى 10 غشت 1877، وإذا كان الممثلون الأجانب قد وافقوا على الحد من بعض تجاوزات المحميين وعلى بعض ما جاء في مذكرة بركاش (موافاة المخزن بلائحة المحميين كل سنة ) فإنهم لم يتوصلوا إلى اتفاق بشأن وضع حدود دقيقة لحق منح الحماية.
وفي سنة 1879 اجتمع النواب الأجانب مرة أخرى في طنجة للنظر في وضع نظام خاص لحماية الأجانب وطالت المفاوضات دون نتيجة.
وفي فبراير من نفس السنة طلب بركاش من الممثلين الأوربين نتائج مفاوضاتهم لكنه لم يتوصل بجواب واضح في الموضوع فطالب بعقد اجتماعات أخرى للتوصل إلى اتفاق نهائي حول حماية الرعايا المغاربة وحول الضرائب التي يجب على المحميين دفعها والجوازات التي تمنح للمغاربة الذين يهاجرون إلى دول أخرى فيغيرون جنسيتهم ولا يعترفون بسلطة القانون المغربي بعد رجوعهم المغرب، ودامت هذه المحادثات ثلاثة أشهر انتهت إلى موافقة الهيأة القنصلية على بعض المطالب المغربية دون أن تعرف حيز التطبيق، وهكذا انتهت سنتان من الاجتماعات بالرفض الشامل تقريبا للمقترحات المغربية، وأخيرا اقترح دريموند هاي عقد مؤتمر دولي لتسوبه المشكل وللبث في بعض النقط المالية التي أثارها المغرب.
وقد انتهى هذا المؤتمر الذي انعقد بمدريد من 19 مايو 3 يوليوز 1880 وبمشاركة كل القوى التي تتوفر على ممثل لها في المغرب إلى نتائج مخالفة لما كان يتوقعه المخزن، إذ لم يزد أن جعل مشكل الحماية قانونا دوليا أصبح المغرب ملتزما به أمام الدول الأوربية، فبتوسيع المؤتمر مجال امتياز الحماية ليشمل مجموع القوى الأوربية قد عمل على ترسيخها عوض التخفيف من حدتها، وزيادة على هذا اعترف المؤتمر للأجانب يحق اقتناء ممتلكات عقارية بترخيص من المخزن. وقد شكل حق الامتلاك هذا باعتبار الحصانة التي تتمتع بها كل الأنشطة الأوربية بالمغرب تنازلا حقيقيا عن السيادة الترابية، وبمعالجة المؤتمر لقضايا غير الحماية الشخصية كالملكية، والضرائب، وحرية العقيدة قد وسع مجال تدخل القوى الأوربية بالمغرب مما يشكل سابقة خطيرة.وفعلا لم يعد المخزن حرا في تصرفاته ولا يمكنه إحداث أي تغيير بالبلاد دون موافقة القوى الأوربية. لقد سجل مؤتمر مدريد عمليا نهاية استقلال المغرب.
مواقف العلماء:
لقد كان من الطبيعي بالنظر لمكانة العلماء كأوصياء على مصالح الأمة وبحكم المسؤولية المنوطة بهم أن يحددوا مواقفهم حيال ظاهرة الحماية الشخصية، ويبرزوا عواقبها بالنسبة لمستقبل البلاد والعقيدة الإسلامية، ولقد ضمنت طائفة من العلماء مواقفها في عدة كتابات جاءت على شكل فتاوى وخطب ورسائل اختلفت آراء الدارسين في تقييمها بين قائل أنها تعبر عن وعي دقيق بالخطر المحدق بالبلاد وتحدد المسؤوليات وتعرض الحلول البديلة للخروج من الأزمة، وبين مؤكد على خلو هذه الكتابات من النظرة الواقعية للأحداث واكتفائها بالوعظ والإرشاد، وأن فئة العلماء التي لم تكن تملك استقلالية اتجاه المخزن وكانت غير قادرة على تقديم فكر ومشروع مجتمعي في مستوى التحولات التي عرفها المغرب آنذاك، وهذه الكتابات لا تعدو كونها تمثل نصوصا فرعية انبثقت من نص أصلي هو النص الإلهي.
لقد اجمعت كل هذه الكتابات على استنكار ظاهرة الحماية الشخصية وإدانة طائفة المحميين والمتعاملين مع الأوربيين مسلمين ويهود والدعوة إلى محاربتهم ومقاطعتهم،هذا وقد تفاوتت هذه التآليف في مستوى تحاليلها للأسباب التي أدت إلى نشوء معضلة الاحتماء بالأجنبي ورصدها للأضرار المادية والمعنوية الناتجة عنها وكيفية سبل مناهضتها.
وإذا أخذنا رسالة العربي المشرفي كنموذج لهذه الكتابات نجده بعدتنديده بطائفة المحميين وإبراز زيف ادعاءاتهم، يتساءل عن حكم الشرع في حق هؤلاء قائلا" فهل يكون المحتمي بالحماية على هذه الحالة مسلما عاصيا أو خرج عن دينه بالكلية وللإمام أن يحكم فيه باجتهاد..."ويكتفي المشرفي بالجواب على السؤال المطروح بتوجيه النصح إلى كل مسلم بأن واجبه هو مقاطعة هؤلاء المحميين مقاطعة نهائية لأنه يرى أنها السبيل الوحيد للحد من انتشار هذه الظاهرة مؤكدا على أن تهاون رجال السلطة في اتخاذ تدابير تأديبية ضد المحميين يشجع لا محالة رعايا آخرين على اقتفاء أثرهم. وأن الأمر سيأخذ أبعاد الكارثة لأن الشك بدأ يتسرب إلى عقول العامة حيث ينظرون إلى وضعية أصحاب الحمايات ويقارنونها بوضعيتهم فيتصورون أن دين الكفار أحسن من دينهم، لأن هذا المنكر – وهو التعلق بالعدو- من أعظم المفاسد في الدين يتعين فيها الزجر والتغليط... وحيث لم يكفهم من له الكلمة من أهل الحل والعقد زادهم ذلك غلطة وفضاضة واتسع الخرق على الواقع وعظمت المصيبة وفسد اعتقاد العامة حتى ظنوا أن ذلك الدين الفاسد هو الدين الحق وأساءوا الظن بدين الإسلام والعياذ بالله.
وإذا كانت حملة العلماء قد اشتدت وتوالت صيحات الإنكار والتنديد بموازاة استشراء عدوى الحماية وتفاقمها، فإن هذه الكتابات كما لاحظ العروي في تحليله لنصوصها ظلت تعتمد نفس الخطاب والمقاييس كما أنها لم تذهب إلى درجة الإقرار صراحة بتكفير المحميين والمطالبة بعقابهم كمرتدين.
لقد ظلت هذه الكتابات إلى غاية نهايتها مكتفية بالتركيز على الجانب الديني لظاهرة الحماية مغفلة أبعادها السوسيو سياسية، فضلا عن أن مصادر المرحلة لا تسعف الباحث في معرفة ما إذا كان لهذه الكتابات من دور وأثر فاعل في مواجهة الظاهرة.
Pمن بين هذه الكتابات نذكر:"هداية الضال المشتغل بالقيل والـقال.-"للكتاني
P الـعربي المشرفي" "الرسالة في أهـل البسبور الحـثالة" مخطوطة.
Pمحمد إبراهيم الساعي"سؤال كشف الـمستور عن حقيقة أهل البسبور"مخطوطة.
Pأبوجعفر الكتاني: " الدواهي المدهية للفرق المحمية " محظوظ
أبو الحسن الفهري الفاسي:"إيقاض السكارى المحتمين بالنصارى أو الويل والثبور لمن اتى بالبسبور".
المهدي الوزاني: رد على من آمن بجوار الاحتماء".
نص تاريخي:
لقد تكاثر عدد المحميين سنة عن سنة بنفس النسبة التي تكاثر بها عدد الأوربيين في المغرب، لقد كانت القنصليات تقرر بين الفينة والأخرى إلغاء الحمايات الممنوحة تعسفا، فتتم مراجعة اللوائح، وتحذف الأسماء المشبوه في أمرها. لكن ما أن تنتهي الحملة حتى تمتلء السجلات بأسماء جديدة، وكان هذا النظام مصدر ربح بالنسبة لبعض القناصلة اللئام أو المفلسين ووسيلة للتملص من أداء الضرائب بالنسبة للمغاربة الأعتياء. لقد لاحظ بابتوت Payton قنصل بريطانيا العظمى سنة1884 أن بيع الحماية كان أمرا مألوفا وعزل قنصل الولايات المتحدة من منصبه بسبب الرشوة واستغلال النفوذ، وبلغ صدى فضيحته العاصمة واشنطن، وعزل خلفه ريد ليوس لنفس الأسباب....وتبين من بحث أنجز سنة 1883أن أحد أعوان قنصلية فرنسا الذي كان يقيم في مدينة آسفي كان يعيش بما تذره عليه عملية الاتجار في الحماية، إذ لم يكن له من رأس المال سوى بطاقات الحماية التي كان يبيعها بالمزايدة في الأسواق الداخلية بعيدا عن الموانئ.
ويمكن سرد كثير من الحالات في جميع المدن، وبالنسبة لقنصليات جميع الدول. وكان إحصاء جميع المحميين في أواخر عهد مولاي الحسن أمرا مستحيلا، ذلك أن سجلات القنصليات لم تكن تشتمل إلا على المحميين الرسميين، لكن بعض الأرقام المؤكدة تبين الارتفاع المهول لأعداد المحميين، لقد لاحظ قنصل الولايات المتحدة في تقرير كتبه سنة 1888 أن عدد المغاربة الذين تحميهم بلاده يفوق 800 شخص عند وصوله إلى المغرب، وفي سنة 1887 رفض جميع سكان إحدى القرى وعددهم 300 أداء الضرائب للمخزن لأنهم كانوا يعتبرون أنفسهم محميين، لأنهم يحوشون الصيد لفائدة القنصل العام، وقد ساندهم هذا الأخير في رفضهم، وكان الترجمان اليهودي سمطون- الذي كان يعمل في نيابة القنصلية البرتغالية في مدينة الجديدة- يحمي ثلاثمائة شخص، وفي سنة 1886 كان عدد المحميين المسجلين في سجلات الحماية الرسمية الفرنسية 336 مغربيا، وفي مدينة آسفي حيث يقطن فرنسي واحد كان عدد المحميين 30 فردا في يونيو 1890، وفي تطوان كان عدد المحميين اليهود 300 شخص سنة 1863...وكانت الحماية تشمل رب الأسرة وجميع أفراد عائلته، وتمتد عمليا إلى شركائه وعماله في مهنته، وهكذا تملص من سلطة المخزن في أواخر القرن التاسع عشر عشرات الآلاف من المغاربة، ومن أغناهم وأكثرهم نفوذا...
وقد قال ممثل فرنسا في الموضوع" قضية الحماية هذه...سبب عدد من التعسفات قد تؤدي إلى خراب كيان المملكة" وما له لا يقول أن معظمها قد خرب فعلا، وذلك ما أوضحه دونالد ماكيتري سنة 1887، إذ عرض للتعسفات الفاحشة التي نتجت عن الحماية، كما أثبت أن عواقب هذا النظام كره عامة المغاربة للأوربيين، نظرا لما يلقاه هؤلاء العامة من عسف المحميين، كان من عواقبه أيضا تصميم المخزن على رفض الإصلاحات وحرمانه من الوسائل المالية ومن السلطة الضرورية لإنجاز هذه الإصلاحات...وقد أجمعت كل التقارير والصحف على تأكيد صحة هذه الإخبار، ويمكن أن يضاف إليها عدة تفاصيل، بعضها أبشع من بعض، لكن لا جدال في صحتها.
وقد بدل مولاي الحسن وسعه مرارا لإلغاء حق الحماية، وطلب من العلماء دراسة الوسائل التي ترغب الدول في إهمال هذا الحق، ألـح هو كذلك على ممثلي هذه الدول، لكن ذلك النظام كان أرسخ من أن يُلغي، إذ كانت الأعداد العديدة من الناس تعيش منه، لقد كان هذا النظام من أهم العوامل التي أدت إلى تفكيك هياكل المخزن، كما مثل أهم عائق أمام أي إصلاح من الإصلاحات الناجعة، وقد قال كانوفاديل كاستيو سنة 1881، "أذا لم يحد هذا التعسف الدولي –الذي هو الحماية- فقد يفيق سلطان المغرب ذات صباح، ولا يجد له رعايا، إذ تكون دول صديقة قد سلبتهم منه"، وكأن ما تكهن به قد أخذ يتحقق...و كان لهذا النظام عواقب سياسية خطيرة.
ملامح من التحولات الاقتصادية بمغرب
القرن 19
لم يشهد الاقتصاد المغربي خلال القرن 19 سوى تطورا ضئيلا في بنيته، وبالمقابل تعرض لاختلالات خطيرة بسبب التدخل الأوربي:
الفلاحة والحرف
ظلت الفلاحة النشاط الأساس لأغلبية السكان، إلا أن الاستمرار في اعتماد الوسائل العتيقة لم يسمح بتوفير فائض إلا في سنوات المحاصيل الجيدة، بينما ظلت البلاد عرضة لمجاعات دورية نتيجة عدم انتظام أحوال المناخ. وإذا كانت بعض المناطق بدأت تعرف بداية التمليك وتركيز الملكية، فعلى العموم تبقى معظم الأراضي جماعية والملكية المتوسطة هي القاعدة. ولا يتم الاستغلال المباشر إلا في الملكيات الصغيرة وما أن يحصل ملاكا على أراضي كافية حتى يلجأ إلى الخماس، أما كراء الأراضي فكان غالبا ما يتم مقابل جزء من المحصول.
تشكل الحبوب الزراعة الرئيسية، وقد تمكن التسرب الأوربي في المناطق الساحلية من تنمية بعض المزروعات: الخضروات، الفواكه، البواكر، العنب، القطاني كما تحسنت تربية الأغنام من أجل توفير مادة الصوف والأبقار من اجل الحليب واللحوم، وقد ظل ترويج المنتجات الفلاحية متواضعا مما يفسر تفاوت الأثمان الفلاحية من منطقة إلى أخرى.
أما في المدن، فقد شكلت الحرف النشاط الصناعي الرئيس، فالحرف المنـزلية تنتج داخل المحترفات (Les ateliers)، عددا من البضائع الجارية الاستعمال (المطروزات الزرابي،ماء الورد...) أما الحرف ذات الصبغة التجارية فإنها تنتج كل البضائع ذات الاستعمال المعتاد(الجلود، الأخشاب، مواد البناء، المواد الغذائية، الملابس...)يصنع بعضها في معامل حقيقية مسيرة من طرف رب المعمل الذي يرأس عمالا ويدفع إنتاجه إلى تجار الجملة أو نصف الجملة، وبعض السلع التي يصنعها حرفييون يقومون ببيعها داخل دكاكينهم، ويتجمع هؤلاء في أحياء حسب اختصاصهم، ويكونون حنطات يسهر عليها أمين ويراقبها محتسب. وقد تضررت الحرف كثيرا من التدخل الأوربي بسبب منافسة المنتوجات المستوردة للمنتوجات المحلية.
ورغم ضعف وسائل المواصلات والنقل الطرقي وارتفاع كلفته، فإن حركة تجارية نشيطة أنعشت مختلف مناطق المغرب. وإذا كان نمو التجارة البحرية قد أدى إلى تراجع الدور التجاري للمدن الداخلية لفائدة المدن الساحلية فإن المبادلات في البوادي احتفظت بكثافتها، فقد استمر القرويون يتوافدون بانتظام على متاجر المدن وأسواق البوادي المزدهرة خصوصا على طول المسالك وعند اتصال المناطق المتكاملة.
تطور التجارة الخارجية
ظهرت عواقب التدخل الأوربي بكل وضوح في تطور المبادلات الخارجية، فالإحصائيات تدل على تقدم سريع، إذ تضاعفت قيمة المبادلات أكثر من عشر مرات بين سنة 1830 ونهاية القرن. والواقع أن هذه المبادلات ضعيفة إذ ما قورنت بالمبادلات الجزائرية. وحتى بالمبادلات التونسية، لكن تقدمها يسمح بقياس أهمية انفتاح المغرب من جهة، ومن جهة أخرى فإن هذا التقدم في المبادلات لم يكن متواصلا بل سار في منحى غبر منظم نقرأ فيه تذبذبات الاقتصاد المغربي ونتبين منه في آن واحد مراحل التدخل الأوربي، وعلى العموم فإن التراجع في نسبة المبادلات يوافق سنوات المحاصيل السيئة ونقص الأقوات التي طبعت باستمرار الحياة المغربية في القرن 19، والتي أدت في نفس الوقت إلى نقصان المادة الموجهة للتصدير وإلى انخفاض القوة الشرائية للسكان، بينما التقدم في نسبة الرواج والمبادلات التجارية يوافق سنوات المحاصيل الجيدة والوفيرة.
في إطار هذه الحركة الكلية يبدو إيقاع توسع الواردات أكثر انتظاما مما هو الشأن في الصادرات فكل فترة تراجع يكون انعكاسها على الصادرات أعمق من تأثيرها على الواردات. وهكذا فإن أزمة 1856 – 1859 أحدثت نقصانا في الصادرات بنسة(106%) بينما لم تبلغ هذه النسبة في الواردت سوى (80%). نفس الأمر حصل خلال أزمة 1874 – 1884 حيث بلغت نسبة التراجع (45%)و (28%). وإلى حدود سنة 1878 فإن فترات الانتعاش كانت أفيد للصادرات منها للواردات. ولكن منذ هذا التاريخ انقلب الاتجاه ونقص الفرق تدريجيا إلى أن أصيب الميزان التجاري بعجز مستمر ابتداء من سنة 1892.
هذا التطور المضر بالاقتصاد المغربي هو انعكاس للتغيرات العميقة الحاصلة في ظروف التجارة البحرية المغربية منذ منتصف القرن 19، فقد استفادت تجارة الاستيراد من تحديد رسوم جمركية ضعيفة عـند الاستيراد(10% من القيمة)، ومن تخفيض أثمان السلع الأجنبية وانخفاض أثمان النقل البحري. وهكذا أمكن للمنتوجات الأجنبية أن تفرض نفسها دون عراقيل إلا تلك التي تأتي من ظروف السوق الداخلية على العكس فإن إبقاء رسوم خصوصية غالبا مرتفعة القيمة عن الصادرات وظهور ممنوين جدد علاوة على الفرق المتزايد باستمرار بين الأثمان المغربية وبين أثمان النقل البحري، كلها عوامل حدث أكثر فأكثر من خروج المنتوجات المغربية.
وقد احتلت المنتوجات القطنية طوال القرن 19 الرتبة الأولى بين الواردات بنسبة تصل إلى 50% أحيانا من المشتريات المغربية، بينما مثل السكر والشاي أقل من 10 سنة 1830 وحوالي الثلث في نهاية القرن. ويظهر ارتفاع مشتريات المغرب من هذه المواد في فترات الأزمات الأهمية التي أصبحت تحتلها في التغذية والحياة اليومية للسكان. وفي تهاية القرن فرضت منتوجات أخرى نفسها (ملابس- شموع- مواد البناء- بترول الأدوات القاطعة...سلع مصنوعة على نموذج المنتوجات الحرفية).
كما تغير اتجاه المبادلات فقد تقهقرت السيطرة الانجليزية تدريجيا، وانتقل نصيب بريطانيا في التجارة المغربية من 30% سنة 1886 إلى 50% سنة 1890و29% سنة 1905 وهي عواقب مباشرة لإبرام الاتفاق الفرنسي البريطاني، وكانت فرنسا وألمانيا هما الدولتان المستفيدتان من هذا التقهقر. لكن التغيرات الأكثر عمقا حدثت في تيار المبادلات إذ أدى تحول المغرب نحو المحيط الأطلسي إلى تدهور التيارات البرية، وكانت التجارة الشرقية أول من تأثر بصدمة الظروف الجديدة. فرغم المجهودات التي بذلتها فرنسا وتجار منطقة وهران لإنعاش المبادلات البرية فإن هاته الأخيرة عرفت تدهورا لا يمكن علاجه. وقد نتج عن اضطرابات الحدود. وعن مناخية التجارة البحرية المحادية للساحل [المساحلة Cabotage] بين وهران وطنجة، وعن تحول قافلة الحج نحو البحر والتي تعتبر دعامة تقليدية للتجارة مع الشرق. على العكس احتفظت التجارة الصحراوية بأهميتها إلى حوالي 1875 بل أكثر من ذلك استعادت بعض نشاطها إلا أن هذا الازدهار كان قصير العمر، فقد مثل آخر نفس لتجارة مهددة بالاختناق إذ ساهمت مجموعة من العوامل في تدهورها ، ومنها مجهودات حكام السينغال لنقل التبادل التجاري نحو سان لوي منافسة مؤسسة رأس جوبي وواد الذهب، ثم اتساع الهوة بين التجارة البرية وتجارة القوافل، ثم منافسة الأسواق الجديدة، وقد أصيبت التجارة عبر الصحراء بضربة قاضية على أثر احتلال الصحراء وخصوصا استيلاء فرنسا على تومبوكتو سنة 1809. ويتضح هذا التدهور جيدا من خلال تجارة ريش النعام بالصويرة، فبعد أن كان 1.2000.000سنة 1863 انخفض إلى 280.000 في سنة 1883 و 85.000 سنة1893 ليختفي نهائيا من تجارة المدينة سنة 1895.
كما أن الظروف التجارية الجديدة غيرت كثيرا من تيارات التجارة البحرية التقليدية. فموانئ المصبات (الرباط، العرائش، تطوان) التي كانت تهتم بها السفن الشراعية في الماضي لما توفر لها من مخابئ ضد العواصف. هجرت تدريجيا كلما ازداد نجاح الملاحة التجارية، وتزايدت حمولة السفن لفقر التيارات التجارية البرية والجنوبية مما أثر على الموانئ التي كانت تنتهي إليها هذه التيارات، وهو ما يفسر تدهور مينائي الصويرة وتطوان. وقد احتلت طنجة جزئيا مكانة تطوان، وتمكنت بفضل موقعها على مدخل المضيق، ومرفئها الواسع والمحمي. ووجود جالية أوربية كثيرة العدد وهيئة قنصلية، علاوة على تعدد الاتصالات البحرية والبريدية وإعداد الطريق التي تربطها بفاس وإبحار الحجاج منها. كلها عوامل ساهمت في اتساع مجال نفوذ طنجة الذي كان في البداية محدودا. ووصل على حساب تقلص تطوان إلى سبو وفاس، ومنها إلى المغرب الأوسط والجنوبي، على أن توسعها كان ينافس توسع الدار البيضاء التي تنازعها المكانة الأولى، وقد ارتبط ازدهار هذه الأخيرة باستئناف تصدير الحبوب والصوف ابتداء من سنة1830. وخاصة بين سنتي 1852 – 1857. كما استفادت من وجود منطقة خلفية غنية، وتعددت وظائفها تدريجيا، فمجالها التجاري اكتسح مجال الرباط ومجال الجديدة وحتى الصويرة. وانتهى في توسعه إلى أن ضم فاس ومكناس وتادلة وأم الربيع والحوز بالجنوب. كما انتزعت الدار البيضاء من جبل طارق دور المستودع الذي كان يقوم به بالنسبة للتجارة المغربية، وغداة الحرب الإسبانية المغربية أعطيت للمدينة إدارة مشغلة حيث استقر بها كل ممثلي البعثات الدينية، واعتبرتها الشركات الكبرى مركزها التجاري الأساسي. وقد ارتفعت مساهمتها في مجموع التجارة المغربية من أقل من 5% سنة 1844 إلى ما يقرب حوالي الربع سنة 1890.
وقد أدى تطور التيارات التجارية على هذا النحو إلى تحول عميق للجغرافية الاقتصادية للبلاد. وهذا أصل عدم التوازن الحالي بين المغرب الأطلنتي والمغرب الداخلي، فكلما كانت المناطق الداخلية والجنوبية على الخصوص تتراجع وتنفرد كلما ضعف التيار التجاري الذي كان ينعشها. وبالمقابل كانت المناطق الداخلية والجنوبية على الخصوص تتراجع وتنفرد كلما ضعف التيار التجاري الذي كان ينعشها. وبالمقابل كانت المناطق الساحلية والوسطى على الخصوص تتطور باتصالها مع العالم الخارجي. وبفضل حيوية جديدة ارتفع نصيبها في الاقتصاد المغربي، وشيئا فشيئا أصبح المغرب يعيش على إيقاع ساحله الأطلنتي.
الاستشارات السلطانية خلال القرن التاسع عشر في الميدان المالي والتجاري والعسكري.
تمخض عن التدخل الأوربي في مغرب القرن التاسع عشر بروز قضايا مستحدثة لم يكن للمغاربة عهد بها. فكان لا بد للعلماء من البث فيها. باعتبارهم يشكلون الطليعة العالمة بنصوص الشرع. يعبرون دائما عن جانب المشروعية. والسلطان في الفكر الإسلامي يستمد قوته من الشرع، وحتى إذ لم يرض على فتاوي بعض الفقهاء يلجأ إلى فتاوى مضادة من هيئة فقهية أقل تصلبا. وقد ألفت عدة كتب ردا وجوابا على استشارات سلطانية في مجالات مختلفة (سياسية – عسكرية- مالية – تجارية).وسنكتفي بالتعريف ببعض النماذج من هذه الاستشارات ومنها:
الاستشارات السلطانية في الميدان المالي
توالت سلسلة من الأزمات على المغرب بعد حرب تطوان، كانت أولها وآخرها الأزمة المالية الناتجة عن معاهدة الصلح بين المغرب واسبانيا التي فرضت على المغرب دفع عشرين مليون ريال مقابل خروجها من تطوان.وما استولت عليه من أراضي بينها وبين سبتة. ولم يستطع بيت المال تسديد سوى الربع من هذه الغرامة. ويظهر حسب تعبير المؤرخ محمد داود أن هذه الأزمة المالية أوقعت الدوائر المخزنية في حيرة. فصارت تبحث يمينا ويسارا لعلها تجد مخرجا لها من تلك الأزمة وكمحاولة من السلطان لحل المشكل وجه استفتاء للعلماء في شأن فرضه معونة على الشعب لدفع مال الصلح.
استشارة السلطان محمد الرابع حول إحداث المعونة
واجهت الحكومة المغربية صعوبات وعراقيل لجمع المال المتفق عليه كأساس للصلح وتسديد الغرامة في وقتها المحدد. وكان السلطان يعلم ما يعتري بلاده من فوضى حيث كانت المدينة وحدها تخضع للسلطة في حين كانت البوادي والقبائل ترفض دفع الضرائب لذلك فكر السلطان في وسيلة تساعده للوصول إلى الشعب الذي سيساعده ماديا. فقام بعدة مشاورات في مقدمتها مشاورته لعمه العباس في رسالة جاء فيها" أما الإعانة التي أشرت بفرضها على تلك الإيالة فلا بد من المفاوضات مع اهل الدين من أهلها في القدر الذي يليق أن يفرض على كل قبيلة. فتفاوض مع من تعرفه دينا، عارفا بأحوال قبائل تلك الجهة وأعلمنا بما أشار به على سبيل التفصيل لنكتب لهم به".
إن حنكة السلطان السياسية دفعته لإرجاع المسألة لأهل الدين لعلمه بما كان للعلماء من تأثير على العامة ولقدرتهم على تأويل النصوص الشرعية لخدمة ما يراه السلطان ملائما، وقد أمر السلطان الوزير الطيب بوعشرين بكتابة نص الاستشارة الذي أورده محمد داوود في تاريخه. حيث قال بوعشرين "الحمد لله عقدنا الصلح مع العدو الكافر بمشقة عظيمة على عشرين مليون من الريال. وليس تحت يدنا بمراكش حتى الربع". قام الوزير أولا بعرض المشكل المالي الناتج عن قضية الصلح وعجز بيت المال عن تسديد الديون. لينتقل في رسالته لما هو أهم . يقول في هذا الصدد" فما تقولون في المال الواقع عليه الصلح. هل يفرض على الرعية حاضرها وباديها أم لا. فإن قلتم بفرضه فما يفعل مع القبائل التي كلها أو جلها متعاص عن أداء ما هو أهون من هذا العدد. فإن قلتم بقتالهم قلنا لا بد من إعمال حركات...موقوف على ما يعطي للجيش ...ولا مال موجود...فإن قلتم بعدم الإقدام على قتالهم فهل يرتكب للقبض منهم وهو أولى من ذلك...من جعل شيء يعطى على ما يوتى به من سلع وغيرها للمدن...فإن قلتم بعدم فرضه قلنا لا نجد ما نعطيه للكافر وينحل حينئذ نظام الصلح...فإن قلتم لا بد من التحقق بفراغ بيت المال...قلنا أمناؤكم ينبؤنكم بأمره...فإن قلتم لا تقبض الإعانة إلا بعد قبض ما بذمم التجار قلت غاية ما عندهم نحو السبعمائة ألف مثقال"
يستشف من مضمون الرسالة الاستشارية أن المخزن كان ينتظر من الرعية مقاومة قويه للضريبة الجديدة: فقد كان بوعشرين ذكيا في أسلوب تقديم الرسالة حيث وضع كل الاحتمالات التي يمكن أن يسأل عنها العلماء وأجاب بما رآه مناسبا لصالح المخزن. كما اقترح الحل الذي رآه ملائما وهو فرض مكوس(ضرائب ) على السلع التي تدخل من أبواب المدن.
تباينت أجوبة العلماء في النازلة فمنهم من فـضل التملص من الجـواب و" كانوا يختفون إلى أن يجيب غيرهم. وبعضهم يترك بلده إلى غيره من المدن والقبائل فرارا من الجواب" وأهون منهم من كان يمضي جوابه إلى جواب عالم آخر كمحمد الفيلالي الذي أجاب في رسالة قال فيها" الحمد لله ...أما بعد..في جواب سؤال مولانا...ما أجاب به الفقيه العلامة أبو العباس سيدي أحمد المرنيسي..موافقا على ما تضمنته أجوبة حماة راية الإسلام" فالفيلالي لم يكلف نفسه حتى البحث في النصوص الشرعية عن وسيلة لتبرير أقواله والخروج برأي حاسم يقنع به نفسه على الأقل. وكان ضمن العلماء المستشارين من لا تأخذهم لومة لائم في إبداء رأيهم صراحة. وكان منهم الفقيه أحمد العراقي الذي بنى رفضه على أن الصلح بالمال الكثير الذي ليس ببيت المال إلا ربعه مع كون العدو طالبا للصلح غير مطلوب. ولا يجوز وينقص لما فيه من تهوين وإذهاب قوته" . أوضح العراقي عواقب الصلح بالمال بأن العدو سيجمع المال ويتقوى بها، وفي أية لحظة ينقض الصلح ليهجم على المغرب. وانتقد الجند المغربي وعدم تنظيمه.
علق على جواب العراقي. العالم البشير أفيلال التطواني بقوله" إفتاء العراقي كان وجيها لو كانت القوتين متساويتين. ولم يكن هذا ليخفى على العراقي. لكنه رغم ذلك أفتى بما رآه ملائما. وأهم من هذا أنه أولى برأيه دون تحيز للمخزن وطمع في أعطياته أو خوف منه". ولم يجب المخزن بقبول فرض المعونة ‘لا العلماء الذين وصفهم علد الله العروي بأنهم" الرجال المعروفون دائما بطاعتهم للسلطة"، ومنهم المهدي بن الطالب بن سودة وعمر بن سودة ومحمد عبد الواحد الدويري ومحمد بن محمد حمادي المكناسي ومحمد الفيلالي. لقد أورد أجوبتهم محمد داود في تاريخه بعرض نماذج منها كجواب عمر بن سودة الذي قال " الحمد لله فإذا نفذ بيت المال..وقصر عن القيام بمصالح المسلمين نفعا...فلا بأس بأخذ مولانا من عامة المسلمين زيادة معونة على وجه لا إجحاف فيه". لقد أجمعت كل الإجابات على أن فراغ بيت المال من الضرورات التي تبيح المحظورات. وبذلك يجوز للمخزن جمع المال من الرعية. فمعظم الإجابات أوردت مثل هذه العبارات " لاشك عندنا في جوازه" "وحكمه" أو " فلا بأس بأخذ". فهذه الأجوبة تدل على هشاشة إيمان هؤلاء بسداد ما أفتوا به. وما يبرر قولنا أن كل أجوبتهم جاء " بالموافقة المشروطة"، وارتبطت الشروط بشيئين أساسيين. أولهما كيفية القبض، ثانيهما شخصية القابض. و اشترطوا في القبض" ثم ليكن القبض من وجه رفق" و" على وجه لا إجحاف فيه" وأكدوا على ضرورة "جباية الأموال بالرفق".واشترطوا في الجابي أن يكون من أهل الثقة والأمانة والتحري في تقديم من يتولى قبض ذلك" وأن لا يوجد لقبضها إلا من تحققت أمانته". فرغم اختلاف العبارات فإن جل الشروط أكدت على الرفق في القبض وعلى حسن سلوك القابض، فضل الدويري والمكناسي المعونة عن المكس. وبنوا حججهم على أن المغارم إذا كانت لصالح المسلمين فليست من المكس في شيء . والمعونة طبعا هي لصالح المسلمين لعجزهم عن مواجهة الأجانب، وبذلك وجدوا وسيلة تخرجهم من ورطة اعتبار المعونة مكسا ونص الشرع واضح في تحريمها حيث أن الرسول ( ص) قال لا يدخل الجنة صاحب مكس(أورده محمد داوود)فمن الأجوبة السالفة الذكر استمد السلطان الشرعية لجمع المعونة من الرعية. وكتب لعمال المدن يطلب منهم المعونة. ومما جاء في خطاب لأهل سلا.."لأن المراد أن يعطي كل واحد على قدر حاله"،كما طلب السلطان الأموال من مدن أخرى. واعتمادا على هذه الأموال استطاع المخزن دفع مال الغرامة. وساعد السلطان على الوصول إلى هذا المبتغى العلماء الذين لم يدخروا جهدا لتبرير شرعية هذه الضريبة ودحض كونها مكسا.
استشارة السلطان الحسن الأول بصدد قضية الوسق
جرت العادة عند سلاطين القرن التاسع أن تتم الاستشارة على مستويين. أولها حاشية السلطان الذين وصفهم بقوله" اسشرنا فيه جميع من يشار إليه بالخير والفضل والدين والعقل...موثوقا بديانته وأمانته"،هؤلاء أشاروا على السلطان في مسألة الوسق"أن لا مصلحة في تسريح ذلك أصلا وبرروا سبب رفضهم لما سيجلبه التسريح من غلاء الأسعار الذي سيضر الفقراء من الرعية . ونظرا لرفض هؤلاء المستشارين المصادقة على تسريح البضائع التي طلبها الأجانب فإن السلطان وجه الاستشارة إلى المستوى الثاني الذي يمثله العلماء الذين سيجدون في النصوص الشرعية ما يبررون به قبول ما يريده السلطان.
شارك في الرد على الاستشارة حسب المنوني في دراسة عن " النخبة المغربية من فاس وما إليها"، ويقصد بالنخبة من كانت كتابات القرن التاسع عشر تسميهم "الخاصة وأولي الحل والعقد". ولنفس الهيئة أرجع ابن زيدان الإفتاء في النازلة بقوله: "وجهت..لخواص الأمة من أهل فاس علمائها وتجارها ومرابطيها".اتفق الجميع على أن الاستشارة وجهت لهيئة مثلت المثقفين من أهل فاس باعتبارهم المؤهلين للفصل في النازلة. فوجه لهم السلطان رسالة أوردها الناصري في "الاستقصا" و مما جاء فيها"أما بعد فقد طلب منا بعض نواب الأجناس بطنجة تجديد شروط التجارة بقصد تسريح الأشياء الممنوعة الوسق. كالحبوب مطلقا والأنعام..ونقصان صاكة الخراج ذاكرين أن تسريح ذلك فيه النفع لبيت المال والرعية".
في بداية رسالته طرح السلطان المشكل العالق، ورصد مطالب الأجانب وأبرز أنه يحاول العمل بما يناسب الظروف ثم أكد على صفاء نيته بقوله" وحاش الله أن نتسبب للمسلمين في غلاء أو نوافق لهم على ضرر"، كما أشار السلطان إلى جواب الهيئة الأولى التي رفضت تسريح البضائع للأجانب، وأكد أن الظروف هي التي فرضت عليه توجيه الاستشارة للعلماء للبث فيها، وإيجاد وسيلة سلمية للتعامل مع الأجانب حيث قال" ولما رأينا الأمر استحال إلى أسوأ حال أو كاد تداركنا هذا الخرق بالرفض وجنحنا إلى السلم..وارتكبنا أخف الضررين فاقتضى نظرنا الشريف أن نظهر لكم درءا لتلك المفاسد...أن يساعدوا على تسريح أشياء بقصد الاختبار...كالقمح والشعير وذكران البقر والغنم..ثلاث سنين فقط على شرط الأختبار في المنفعة التي ذكروها في تسريحه الكل بأعشاره..على أن يكون تسريح ذلك في وقت غلته..مدة ثلاثة أشهر"، ويظهر من كلام السلطان رغبته في مسالمة الأجانب لإدراكه ضعفه العسكري أمامهم. لذلك طلب تسريح ما يطلبونه من بضائع ارتكابا لأخف الضررين، زيادة على أن التسريح سيشكل موردا أساسيا لمداخيل بيت المال، وفي النهاية ختم رسالته بقوله" ولتعلموا أنكم لن تزالوا في سعة فإن ظهر لكم ذلك، فالأمر يبقى بحاله وإن ظهر لكم ما هو أسوء في الدفاع عن المسلمين فاعلمونا، به إذ ما أنا إلا واحد من المسلمين"، واعتبر بعض المؤرخين النازلة عبارة عن استفتاء شعبي عام. وقرأ نص الرسالة السلطانية في مسجد القرويين بفاس لمناقشة القضية.
أفتى في النازلة عدد كبير من العلماء. كان منهم من رأى أن"يقضي بعدم الإسعاف والإسعاد مع تفويضهم له وتصريحهم بأنه ليس لهم بين يديه كلام"ويظهر من كلام هؤلاء العلماء تذبذب موقفهم،فرغم عدم اقتناعهم بالتسريح إلا أنهم فوضوا النظر في النازلة إلى السلطان. وكان في مقدمة العلماء الذين حرروا أجوبة في النازلة جعفر بن ادريس الكتاني. وأمضى جوابه مجموعة من العلماء منهم حميد بن محمد بناني وعبد الهادي بن أحمد الصقلي وعبد السلام بن سودة وغيرهم فإجابتهم نموذج لإجابة العالم المخزني الذي كان همه تسخير علمه لمصلحة المخزن حيث قال الكتاني"..وصلنا كتاب سيدنا..يستشير فيه رعيته ويستخبر في شأن ما يطلبه نواب الأجناس..فليعلم أنه ليس لنا بين يديه كلام ولا لإجاباتنا مع وجود عزته جواب"،وأورد الكتاني عدة نصوص تدل على مشاورة الرسول لأصحابه في المواقف الحاسمة. ووضع الكتاني سبب قوله تسريح ما طلبه الأجناس بقوله" وقد تأملنا أحوال الله اليوم فوجدناها كلها دالة على أن قصدهم بصحبة المسلمين والخدمة معهم وإعانتهم على الحرب هو الدلالة على عداوتهم". فموافقته نتيجة لخوفه من قوة الأجانب وإداركه لضعف المغرب.
لذلك نصح الكتاني السلطان بأن يعمل معهم "المهادنة لحل معلوم وأمر معين ومحتوم". وبذلك يستطيع المغرب إعادة تكوبن نفسه.
نفس الرؤيا جسدها الناصري في جوابه الذي يؤكد فيه على ضرورة مهادنة الأجانب " لأنهم بلغوا اليوم من القوة إلى الحد الذي لم يكن لأحد في ظن" كما أن تسريحه البضائع سيعود بفوائد مالية مهمة لأن الأجانب إذ اشتروا البضائع المغربية فإنهم سيأخذوها بأثمان مرتفعة إضافة إلى ذلك لن يؤثر على السوق الداخلية لأن الإنتاج متوفر، وفي الأخير وكغيره من العلماء رجح الناصري رأي السلطان في الموضوع بقوله" فمن الرأي الذي لا رأي فوقه أن نفوض إليه في ذلك ونثق بحسن رايه،أي بأن الأمر في ذلك إليه...فما اختاره.. اخترناه". كان ذلك موقف العلماء المخزنيين، أما العلماء اللامخزنيون فإنهم رفضوا تسريح المسوقات وحل المسألة سلميا. لكن السلطان لم يلتفت لآرائهم وهؤلاء هم الذين وصفهم الناصري بأنهم "من العامة الأغمار الذين لم يجربوا الأمور". أما تقييد العلماء. فقد أدوا فيه الواجب تذكيرا ونصحا. وقد انتقد السلطان أجوبة مستشاريه كل فريق على حدة بقوله "أما الشرفاء العلويين...ومن نحا نحوهم في رد الأمر إلينا ...فقد أدوا من الواجب بعضه..أما أهل زرهون فمن قبيل هؤلاء غير أنهم معذورون إذا لم يبلغوا مبلغهم من الذكاء" لقد فضل السلطان الحل السلمي وسرح البضائع التي طالبها الأجناس الذين حققوا مطالبهم الواحدة تلو الأخرى بموافقة السلطان والعلماء.
الاستشارات السلطانية في المجال العسكري
طرح الفكر السياسي المغربي المسألة العسكرية بنوع من الحدة ابتداءا من سنة 1844 إثر هزيمة الجيش المغربي أمام القوات الفرنسية بإيسلي. حيث ألفت عدة كتب قدمت كاقتراحات للسلطان تبرز أهم الإصلاحات لتجاوز كبوة الحرب. ذلك أنه قبل هذه المرحلة لم يشعر حكام المغرب بالحاجة إلى الإصلاح العسكري. لأنهم وجدوا في النظم الموروثة من الأجداد " ما مكنهم من إيقاف المد الأوربي".
طرحت المسألة العسكرية بحدة أكثر بعد هزيمة تطوان حيث أجمعت المصادر على أن " هزيمة المغرب فيها لم تنشأ عن الجبن. أو لبخل بالتضحية إنما السبب الأكبر في ذلك هو الفوضى وقلة التنظيم أو عدمه"لذا تعالت صرخات المفكرين بضرورة تنظيم الجيش. وكان السلطان أول المدركين لفوضوية جيشه . لكن تنظيم جيش قوي يحتاج إلى أموال باهضة لا يستطيع بيت المال توفيرها وقتذاك، فكان لا بد للسلطان من البحث عن حل للمشكل، ووجده في فرضه معونة على الرعية. وطبعا لن يتم هذا إلا بتبرير شرعية المعونة من طرف العلماء. فما موقف العلماء من تحديث الجيش والمعونة؟
استشارة السلطان محمد بن عبد الرحماى حول تحديث الجيش
بعد حرب تطوان تقدم السلطان إلى علماء المغرب يستشيرهم عن حكم تنظيم الجيش وإحداث المعونة . وأكد أن التحديث أصبح من الضرورات الملحة للقيام بالواجب الديني. وبذلك بعث السلطان عدة رسائل إلى العلماء والتجار والأمناء، في بداية الرسالة ابرز السلطان مشكلة تموين الجيش ثم عرض المسألة على التجار لإبداء رأيهم فيها نظرا لخبرتهم في المال وقدرتهم على تحديد مقدار المعونة المفروض على كل شخص دون التسبب في أي ضرر للرعية. كما استشار السلطان العلماء لقدرتهم على الإقناع بالشرع وتقريب الجباية من قلوب المغاربة، وكان عدد العلماء المستشارين عشرة منهم أبو محمد عبد السلام. محمد بن المدني كنون...وغيرهم.
أدلى مجموعة من العلماء بأجوبتهم في النازلة، نذكر من ضمنها جواب المهدي بن سودة الذي قال " هذا وإن بلغ حد الاشتهار..أن البارود لم يكن في زمانه صلى الله عليه وسلم.. حتى كانت أواخر المائة الثامنة فحدث البارود..فعلم أهل الإسلام أن غيض الكفار لا يكون إلا باتخاذ البارود والقتال به إذ الشيء لا يقابل إلا بمثله أو أقوى منه، فالمطلوب من سيدنا الهمام.اتخاذ جيش يكون درءا لأهل الإسلام..لأن النظام..هو عبارة عن نظم أمور في الجيش راجعة لتقوية فائدته اتخاذ النظام البوم قوة مستطاعة للمسلمين على الكفار..أن يوسع عليه ( الجيش) أكلا وشربا" أجاز المهدي بن سودة تنظيم الجيش على الطريقة الحديثة لمواجهة العدو بنفس أسلوب قتاله ودعا إلى مزيد من العطاء المالي للجنود لما يبذلونه من خدمات لصالح البلد ولضمان ولائهم، وطبعا لن يتوفر هذا المال إلا بمساعدة الرعية للمخزن. ونفس الإجابة تقريبا وردت عن العلماء مع اختلاف صيغ التعبير.
استنادا إلى أجوبة العلماء استمد السلطان الشرعية لتحديث الجيش وجمع المعونة من الشعب. وفعلا قام السلطان بتنفيذ هذا الإجراء. وسيتابع خلفه الحسن الأول نفس الأسلوب الإصلاحي. وليوفر مصاريف ذلك، استشار في سنة 1876 العلماء عن حكم توظيف المعونة لتنظيم الجيش المغربي فتملص عدد كبير من العلماء من الإفتاء بجواز فرض المكوس خصوصا مع ما أثاره مشكل المكوس من ثورات كثورة الدباغين بفاس.
وطبعا كان من الـعلماء المخزنيين من تصدى للإجابة حيث ألف علي بن محمد السوسي" كتاب سماه" عناية الاستعانة في حكم التوظيف والمعونة" اعتبر فيه أن التحديث لم يكن اختيارا، بل كان ضرورة للدفاع عن النفس، وحاول فصل المعونة عن المكس اعتبارا منه أن الفقهاء اتفقوا أن" التوظيف يفرض لمصلحة داخلية عامة أو لدرء الخطر الخارجي" وبذلك فالتوظيف لتحديث الجيش الذي بواسطته سيتم درء خطر خارجي ليس مكسا. والتمس السملالي لتبرير جوابه حججا فقهية وتاريخية للفصل بين مفهوم المكس والمعونة وكتاب "عناية الاستعانة" هو محاولة للتوفيق بين إقرار المعونة ومطلب التحديث العسكري ، ويظهر من خلاله تأرجح الفقيه بين الدين والسلطة، ومحاولته التوفيق بين ما يطلبه السلطان وما ينص عليه الشرع ويقره.
وعموما فإن كلا السلطانيين وجدا في صفوف العلماء من يضفي المشروعية على مشاريعهم الاصلاحية، لكن السؤال يظل مطروحا هو مدى نجاعة هذه الاصلاحات في ظرفية المغرب المتأزمة اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا.
جوانب من أثر الأزمة المالية على السكان خلال القرن 19
شهد مغرب القرن 19 أزمة مالية خانقة كانت بدايتها مباشرة بعد حرب تطوان، أما نتيجتها فهي دخول الاقتصاد المغربي تحت رحمة وهيمنة الاقتصاد الأوربي وانهيار الأسس الاقتصادية التقليدية للمغرب، ومن ثم لجوؤه إلى سياسة الافتراض مما أدخله في ورطة الديون حيث كان يؤدي فوائد قروض قديمة بقروض جديدة، وبذلك بدأ يفقد الكثير من مقومات السيادة الوطنية.
ويمكن اختزال أسباب هذه الأزمة في العوامل التالية: ثقل الديون ونقص المحاصيل وإلحاح النفقات وانخفاض قيمة العملة.
ومن المعلوم أن مصدري بيت المال هما إيرادات الجمارك والضرائب الفلاحية، لكن المخزن حرم من قسط كبير من مداخيل هذين المصدرين،
فبالنسبة للمصدر الأولى لم تعد تتصرف فيه الدولة تصرفا حرا وكاملا، إذ تطلب تسديد الأقساط المتبقية من تعويضات حرب تطوان وأداء الدين الانجليزي تخلى المغرب عما يقارب ثلاثة أرباع مداخيل الجمارك للدائنين الأجانب.
أما بخصوص المصدر الثاني فقد أثرت فيه كوارث طبيعية تعاقبت على المغرب من سنة1867/1869. تحدث عنها الناصري، وقد نتج عن هذه الكوارث نقص فادح في المحاصيل الزراعية التي كانت تشكل الثروة الأساسية للمغرب، فأفلس السكان وعجزوا عن أداء الضرائب، ولم تستطع السنوات التي تلت سنة 1869 أن تمحو كل النتائج البعيدة المدى لهاته الأزمات. يقول الناصري في هذا الصدد " وكانت أيام السلطان سيدي محمد رحمه الله في أولها شديدة بسبب ظهور العدو على المسلمين وما عقبه من الغلاء والموت..وبعد ذلك اتسع الحال".
إلى جانب ديون تطوان ومخلفات الكوارث الطبيعية انضاف عامل ثالث زاد في تأزيم الوضعية المالية هو إلحاح النفقات لإنجاز مشاريع إصلاحية. أما المشكل النقدي فتمثل في فقدان النقود المغربية قيمتها تدريجيا حيث فقدت ما بين 1845 – 1873 ما يقارب تسعة أعشار قيمتها.
وسنحاول أن نبرز جوانب من انعكاس الأزمة المالية على السكان وأوضاعهم وعلى البلاد عامة.
أمام الاحتياج الشديد للخزينة المغربية اقتضى نظر الحكام إلى تحصيلات أخرى كضرب الأراضي بالخراج باعتبارها أرض فتح عنوة إلى جانب تحصيل العشر فيكون ذلك الاعتبار بابا لتحصيل مغارم ما عدا الزكاة. وإما يفرض ما يسمى بالتوظيفات والمعونة وذلك استنادا إلى شروط متعلقة بالجهاد . أو ما أصبح يطلق عليه اسم المصالح المرسلة، وهي المستجدات من الأحداث والوقائع التي لم ينزل في حكمها نص شرعي. كل هذا ساهم في إذكاء نار الاحتجاجات من طرف القبائل التي احتجت على سياسة المخزن الجبائية. وساهم في تفاقم آثار هذه السياسة التي كانت تزداد جورا كلما كانت الجباية مجحفة والتسخير مرهقا.
يبدو لأول وهلة أن الجباية وحدها لا تفقر. خصوصا إذا علمنا أن النصف الثاني من القرن 19 عرف عوامل تدمير أخرى طبيعية وظرفية أي المجاعات والقحوط. والتي نتج عنها غلاء المعيشة. إلا أن بعض الإشارات تدل على أن المطالب المخزنية والشطط الذي كان يمارسه أصحاب الجباية كان له أثر ه من بين عوامل الأزمة العامة. وفي إطار الانتقالات السكانية ونظرا لكون سكان البادية أكثر الفئات تضررا من حيف الجباة. فقد كثر عدد المهاجرين من مقر سكناهم في البادية في اتجاه المدينة لا لسبب إلا ليسلموا من الوظائف المخزنية ويتحرروا منها. وكان الرحيل يتم فرديا وقلما يحدث بشكل جماعي ذلك أن سكان القبيلة إذا تعذر عليهم دفع ما عليهم كانوا يعلنون الخروج عن العامل، ويمنعون الجباية ويواجهون الحاكم المحلي إذا خرج إليهم بحد السلاح.
ولم يكن سكان البوادي هم المتضررون فقط بل كانت هناك فئة تجار المدن التي تضررت من مزاحمة الأجانب، وتدمرت من كثرة الإعفاءات الجبائية والامتيازات القضائية التي كان يتمتع بها الأجانب. وقد أبدت فئة تجار المدن تعاطفا مع الثوار من سكان البوادي وساندتهم في إطار تنظيمات الزوايا.
وتأثرت فئة الحكام بدورها من الأزمة المالية حين واجهة الضغوطات الأجنبية وخسرت في تلك المواجهة كثير من هيبتها ونفوذها وسلطتها فانقسمت فئة الحكام على نفسها وكثرت الدسائس والمكائد مما سمح للقناصل ليتدخلوا قصد لعب دور الحكم بين جموع المتحاربين. خصوصا بعدما أصبح الوزراء والقواد والعمال مثقلين بالديون لدى التجار أو مسجلين ضمن لوائح المحميين عند وكلاء الدول وسرعان ما وجد هؤلاء المسؤولين أنفسهم بين معضلتين: أولا التهديد من الخارج المتمثل في تعرض البلاد لضغوطات أجنبية. وثانيا الانتفاضات الداخلية.
ومن الآثار العامة كذلك للأزمة المالية هناك اختلال الأمن بين القبائل وتعدد الحركات المخزنية خصوصا عندما تطالب بدفع الزكوات أو الجبايات النقدية مما تسبب في عدة اضطربات سادت العديد من المناطق خاصة تلك المتأثرة من سوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية إذ انتشرت الانتفاضة بالحوز والشاوية ودكالة والغرب وكافة السهول الأطلسية بما فيها سوس. ثم أخذت تمتد إلى غير ها تدريجيا. كما تمت تصفية بعض القواد ورجال السلطة ونهبت دور آخرين.
لقد أوضح بعض الفقهاء أن ضريبة المكس التي تم إحداثها كإجراء مالي لمواجهة الأزمة المالية هي ضريبة غير شرعية مما يعني أنها في كثير من الحالات تؤدي إلى ثورة الصناع والتجار، وكان الخطر يتصاعد كلما تزامن فرض المكوس مع حدوث ضائقة في البوادي.
وفي هذا الجو إندلعت ثورات محلية انعزالية كانت أخطرها ثورة الدباغين في فاس. هذه الثورة التي نشبت بسبب إقرار المكس على الجلود من طرف الأمين محمد بن المدني بنيس فثار الدباغون وبحثوا عن الأمين بنيس ثم حاصروا منزله. واتسع مدى الهيجان. وتمكن الأمين من الاختفاء بحمام، لكن المهاجمين اقتحموا داره ونهبوها إذ كانت بـها أموال طائلة.
وعن هذه الثورة يقول الناصري " لقد ثار الغوغاء وسفلة الأخلاط من الدباغين وتجمهروا وذهبوا لدار الأمين المذكور (بنيس)..وتلاحق اللاحق بالسابق وتسلح القوم واجتمع الغوغاء من كل حدب وصوب، وصمموا على الهجوم على الدار...ودخل النهاب الدار. واستولوا على ما بها من النفائس والدخائر والأموال.
ولم يكتفي الدباغون بنهب دار بنيس التي بالقطاعين بل عمدوا حتى للعرصة ونهبوا جميع ما بها. فكاتب السلطان أهل فاس يذكرهم بالتزاماتهم وكانوا قد فهموا من الخطاب الملكي تهديدا بعقاب المشاغبين. فزاد ذلك من توثر الحالة بمدينة فاس، و عبر الدباغون عن غضبهم بشدة وعندئذ أعطى العامل الأمر بتطويق المهاجمين وتمت قنبلة مواقعهم بالبندقية ثم عرض السلطان الأمان على أهل فاس بشرط قبولهم إقرار المكوس من جديد، وتوقفت المواجهة بعد أن بعث أهل فاس رسالة استعطاف عما سلف منهم إلى السلطان مولاي الحسن. وقد عاود الدباغون الكرة سنة 1874 بعدما تمت إعادة فرض المكوس على الأبواب " وأعلنوا التمرد والعصيان...وآل الأمر إلى إشهار السلاح والمبارزة والكفاح...فمنذ ذلك أمر السلطان بمقابلتهم على قدر جريمتهم. فطاف بهم العساكر ورموهم بالكور من كل ناحية...وفي أثناء ذلك بعث السلطان وزيره أبا عبد الله الصفار يعضهم ويعرض عليهم الأمان بشرط التوبة والرجوع إلى الطاعة. فأذعنوا وامتثلوا وانطفأت نار الفتنة الملعون موقدها..."
وبعدما استقرت الأوضاع واستقامت الأحوال رغب الدباغون في التخلص من وضعهم الحرج، وذلك إما بإبعاد بنيس عن مدينة فاس، وإما بإسقاط المكوس التي كانت سببا فيما حدث " وذهب (الدباغون) إلى الشريف الفقبه المولى عبد الملك الضرير وقالوا له: أنت الذي أوقعتنا في هذا كله بضمانك إسقاط المكس أولا حتى صدر منا في حق بنيس ما صدر. والآن أخرجنا مما أوقعتنا فيه إما بإسقاط المكس، وإما بإخراج بنـيس من بين أظهرنا لئلا تـدول له دولة عـلينا والرجل قد قد صار عدوا لنا".
هكذا فقد تم إخماد ثورة فاس. وذعن أهله إلى السلطان بعدما كانت بيعتهم له مشروطة بإسقاط المكس.
حول الإصلاح في مغرب القرن 19
- مقدمات أولية -
يثير الحديث عن المسألة الإصلاحية في مغرب القرن 19 عدة إشكاليات منها ما يتصل بالجانب النظري (تحديد المفهوم والتصور)، ومنها ما يتعلق بالواقع والتدابير الإصلاحية كما مورست، ومصادرها والميادين التي طالتها، فمفهوم الإصلاح قد يكتسي عدة معان وقد تتداخل دلالته مع دلالات مصطلحات أخرى كالتحديث والتجديد والتغيير والنهضة...وأمام هذا التداخل لا مناص للباحث أن يحدد التوظيف الإجرائي لهذا المفهوم، وفي هذا الصدد نرجح التمييز الذي أبرزه" علي أومليل" في دراسته عن "الإصلاحية العربية" بين منطق الإصلاح الإسلامي القديم والإصلاح الإسلامي الحديث من حيث أن الإصلاح الثاني يختلف عن الأول بإحالته على الآخر واتجاهه إلى الغير في تصوره ومباشرته لعملية الإصلاح وصياغة مشاريعه، ولقد شهد المغرب خصوصا منذ منتصف القرن 19 دعوات ومشاريع وحركات إصلاحية في سياق الاحتكاكات الأولى التي وقعت بين المغرب وأوربا أو ما يعرف بصدمة الحداثة كما تتردد في أدبيات وفكر النهضة، وقبل أن نتعرف على نموذج من هذه الإصلاحات (العسكرية) لا بد من الإشارة إلى الاعتبارات التالية:
تنشا الحاجة إلى الإصلاح والشعور بضرورته ووجوبه في كل مجتمع نتيجة لوعي بخلل ذاتي وبتدهور الأوضاع الداخلية، كما يمكن أن يكون ناتجا عن وعي بأخطار خارجية محدقة بكيان هذا المجتمع. وقد يكون ناتجا عنهما معا، وهذا شأن المغرب منذ منتصف القرن الماضي باعتبار أن الإصلاح مثل ظاهرة طويلة الأمد واكبت تاريخ المغرب. فكانت دوما مصادر داخلية للإصلاح في مقدمتها النموذج السياسي الإسلامي. إلا أن واقع الاحتكاك مع الدول الأوربية خلق وضعا جديدا وبالنتيجة فرض مصدرا خارجيا للإصلاح.
إن ما يلفت النظر بخصوص هذه التدابير الإصلاحية أن كل المبادرات جاءت في الغالب من الجهات الرسمية وتمت على يد الجهاز المخزني والسلطان.
لا يمكن ربط التجربة الإصلاحية ربطا سببيا بجملة من العوامل المحددة، بل ما يمكن التأكيد عليه أنها جاءت نتيجة تفاعل احتكاك شروط مميزة لوضع داخلي يتسم بتأخر شامل في هياكله وبنيانه، تقابله شروط وضع خارجي يتميز بتقدم بنياته العسكرية والصناعية والعملية.
كانت الإصلاحات التي كان السلطان ينوي القيام بها متداخلة فلا يمكن أن يفلح في إحداها أن أخفق في سائر الإصلاحات الأخرى لذا مست المحاولات الإصلاحية كل الميادين والقطاعات (مالية –عسكرية – إدارية- تعليمية...).
لا بد من التمييز بين الإصلاحات التي كان الأجانب يرغبون في إدخالها قصد " تمدينه" وتغيير البنى التقليدية التي تعرقل كل عمل تحديثي من جهة أولى، والإصلاحات التي كان السلطان مقتنعا بضرورة القيام بها من جهة ثانية،مع ما اقترن بهذه القناعة من حرص شديد على الحفاظ على استقلال البلاد والوفاء بالتقاليد والمقومات الإسلامية فضلا عن عدم ثقة السلطان بأية دولة أوربية وإدراكه للأهداف التي كان الممثلون الأجانب يرمون تحقيقها من وراء الإصلاحات المزعومة التي يوصون بها إضافة إلى وعيه بالصراع الدائر بين الهيئات الدبلوماسية التي كانت ترعى مصالح الدول التي تمثلها في المغرب، كل هذه المعطيات تفسر لنا طابع الاحتراس والتردد الذي طبع كل خطوات السلطان وميز سياسته الإصلاحية إذ كان على بينة من تحفظ الأمة إزاء كل أشكال التدخل الأجنبي وموقف العامة الرافض للاقتراحات الأجنبية، وهو رفض له مشروعيته ومبرراته خلافا لما روجته بعض الكتابات الأجنبية من كونه راجعا لتعصب المغاربة وكراهيتهم المطلقة للأجانب، فالمصادر الأجنبية وحتى بعض النصوص المغربية حافلة بأحكام عديدة في شأن هذه المواقف (مثال العربي المشرفي).
إن الإصلاحات الموصى بها من قبل الدول الأجنبية كانت ذات طابع اقتصادي ومرتبطة بما يضمن مصالحها الحيوية بالبلاد وتوسيع استثماراتها، لذا نصادف في كل البرامج الإصلاحية التي اقترحها القناصل الأوربيون إلحاحا على بعض القطاعات بالتحديد، وعلى الميادين التي يمكن لهذه الدول الاستفادة منها كالمطالبة بإصلاح بعض الموانئ المغربية كميناء الدار البيضاء وآسفي وطنجة، وإدخال التلغراف لتسهيل المبادلات بينها وتأسيس دور ومتاجر الأوربيين، وإلغاء قرارات منع المتاجرة ببعض المواد، وبناء الطرق وإنشاء سكة حديدية لتسهيل النشاط التجاري والتحكم فيه.
فغني عن البيان أن الإصلاحات كما أراد الأوربيون صياغتها وإنجازها كانت تستهدف خلق شروط مواتية لضمان استغلال منظم وعقلاني لصالح الرأسماليين الأوربيون ولفائدة المؤسسات الاستعمارية وتوفير قنوات مناسبة للتسرب الأجنبي، غير أن إدخال مثل هذه الإصلاحات كانت تعني عند المغاربة مزيدا من التمازج بالأجنبي وما يترتب عنه لهذا واجهوها بالرفض الذي عبر عنه فئة من العلماء (مثال: المغيلي محمد بن عبد الكريم: جواب وسؤال فيما يجب على المسلمين من اجتناب الكفار).
وثمة تمييز آخر يكمن في دلالة معنى الإصلاح بالنسبة للقوى المجتمية وهو تمييز يمثل السبب الجوهري في إخفاق الإصلاح حسب رأي " عبد الله العروي" في كتابه" مفهوم الدولة" حيث يلاحظ هذا الأخير أن الإصلاح لم يكتب له النجاح سواء في المغرب أو في كل بلدان العالم الإسلامي لأسباب متعددة غير أن السبب الرئيس -يرى العروي- كون أن الإصلاح لم يكن يعني معنى واحد بالنسبة للمخزن من جهة وبالنسبة للرعية أو من يتكلم باسمها من جهة ثانية.
فالإصلاح بالنسبة للدولة يعني تقوية السلطة من خلال التذرع بلوازم مواجهة الأجانب (العدو) وبالتالي يبدأ بتدريب الجيش وتسليحه في مثل هذا الحال فإن الإصلاح لا يرتقي إلى مرحلة القطيعة مع الماضي بل يعني تثبيت النظام القديم بأساليب تبدو تجديدية، بيد أن الإصلاح بالنسبة للعلماء فإنه يعني القضاء على أسباب الانحطاط في مقدمتها الاستبداد الذي أدى إلى الجور والاستئثار بالخيرات، وأن الإصلاح هو الرجوع إلى حكم العدل والشورى وتحقيق المصالح العامة، وهو الطريق الوحيد لمواجهة العدو، ويخلص العروي من هذا التمييز إلى أن التناقض في فهم الإصلاح ومضمونه هو العامل الذي كان وراء إخفاق كل تجربة إصلاحية في بلدان العالم الإسلامي.
بيبلوغرافيا تمثيلية:
ملحوظة: كثيرة هي المصادر والمراجع التي تهم تاريخ المغرب في القرن التاسع عشر. إذ حظيت هذه الفترة بنصيب الأسد من اهتمام الباحثين والمؤرخين مغاربة وأجانب. لذا نقدم مجرد عينة من المصادر والدراسات دون أن يعفي ذلك من الرجوع إلى كل التصانيف التي تتصل بتاريخ مغرب القرن 19.
- محمد بن ابراهيم السباعي: البستان الجامع لكل نوع حسن وفن مستحسن في عد مآثر السلطان مولانا الحسن .خ.ع. رقم 1346.
- محمد المشرفي: الحلل البهية في تاريخ ملوك الدولة العلوية مخطوط خ. ع. د- 1463.
- أحمد بن محمد بن حمدون بلحاج: الدرر الجوهرية في مدح الخلافة الحسنة خ.ح.ر.
-العربي بن علي المشرفي: الحسام المشرفي خ.ع.ر ضمن مجموع رقم 22765.
-محمد الحجوي: اختصار الابتسام، مخطوظ خ. ع. ر رقم ح 144.ضمن مجموع.
-محمد الدرقاوي المدغري: منشور يـدعو إلى الحرب خ. ع. ر رقم د 3353.
-محمد بن عبد الله الغيغائي: رحلة الغيغائي خ.ع.ر قم 98.
-محمد بن عبد الله التطواني الصفار: رحلة إلى فرنسا – مخطوط خ.ح.ر رقم 113.
-أبو العباس أحمد بن محمد الكردودي: التحفة السنية للحضرة الحسنية بالمملكة الاصبنيولية – مطبوعات القصر الملكي، الرباط 1963.
-إدريس بن إدريس العمراوي: تحفة الملك العزيز بمملكة باريز، الطبعة الحجرية خ. ع.ر رقم 23440. د.ت.
-أبو الجمال محمد الطاهر بن عبد الرحمان الفاسي: الرحلة الإبريزية للديار الانجليزية- تحقيق محمد الغائي، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي- الرباط.
-عبد الرحمان ابن زيدان: إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس- المطبعة الوطنية بالرباط، الطبعة II 1990.
-أحمد بن خالد الناصري: الاستقصا في أخبار دول المغرب الأقصى، مطبعة دار الكتاب- الدار البيضاء، 1956 – 1954 ج 9.
-ليفي بروفنصال: مؤرخو الشرفاء- تعريب عبد القادر الخلادي مطبوعات دار المغرب للتأليف والترجمة والنشر 1977.
-ابراهيم حركات: التيارات السياسية والفكرية بالمغرب خلال قرنين ونصف قبل الحماية – مطبعة الدار البيضاء، الطبعة I ، الدار البيضاء 1985.
-محد داوود: تاريخ تطوان ، المطبعة المهدية، تطوان 1962.
-محمد المنوني: مظاهر يقظة المغرب الحديث، منشورات وزارة الأوقاف- يناير 1973.
-أحمد التوفيق، المجتمع المغربي في القرن 19 ، إينولتان(1912-1850)، منشورات كلية الآداب، الرباط، يناير 1979.
-Miège (J.L) :Le Maroc et l’Europe 1830- 1894 , 4 tomes Edition de la porte, Rabat 1989.
-Julien (ch.A) : Hassan 1er et la crise marocaine aux 19ème siecles – in les Africaines, Tome INTERETS.
-Kenbib(M) : Les protections étrangéres au Maroc au 19ème siécle début du 20 siécle.
المجلات والدوريات:
-دورية الوثائق الملكية.
-مجلة دار النيابة.
-مجلة أمل.
-مجلات كليات الآداب بالمغرب.
-مجلة تطوان.
-مجلة البحث العلمي.
-مجلة دعوة الحق.
-مجلة تاريخ المغرب.
-Hesperis Tamuda
-Archives Berberes.
-Archives Arabe.
- الكتابات التاريخية حول مغرب القرن19
أ-التأليف الأجنبي
1- طبيعته
2- تنوع هذه التآليف
3-أهم مراحل هذا التأليف
4-نماذج من قراءات هذا التأليف الأجنبي لمغرب القرن 19
ب-التأليف المغربي
1- تطور الكتابات التاريخية المغربية
2- مراحل تطور التأليف التاريخي
- جوانب من مسلسل التوسع الأجنبي بمغرب القرن 19
- الحماية القنصلية
- ملامح من التحولات الاقتصادية بمغرب القرن 19
- الاستشارات السلطانية خلال القرن التاسع عشر في الميدان المالي والتجاري والعسكري.
- جوانب من أثر الأزمة المالية على السكان خلال القرن 19
- حول الإصلاح في مغرب القرن 19 - مقدمات أولية -
- بيبلوغرافيا تمثيلي
الفهرس
يجب مراجعة هذه الفقرة
فمن المعروف أن علماء الاجتماع الكولونيالي كانوا واعون بمأموريتهم. فالمغرب في منظورهم تغلب عليه الهشاشة والتآكل. ومن تم وجب التنظيم للمهمة الحضارية ***في شمال افريقيا والتي سطر لها مهمة إعادة المغرب إلى لاتينيته الأولى كما حلم بذلك Louis Bertrand لكي يدخل آخر ** العالم الأبيض أي البرابر إلى السيرورة التاريخية الأوربية.
1903**: البداية الفعلية لعلم المغرب يقول متشو بلير"لقد كان يتعلق الأمر عند إنشاء Les archives Berbères بإقامة كشاف للمغرب وقبائله ومدنه وزواياه وبالوقوف على أوال كل ذلك وتفرعاته وصراعاته وتتبعه عبر الدول المختلفة خلال التاريخ ودراسة مؤسساته وعاداته. وباختصار ثدر المستطاع استكشاف المجال الذي سيكون علينا أن نعمل فيه استكشاف يمكننا أن نسلكه عن علم وأن نمارس سياسة أهلية دون أخطاء كثيرة ودون ضعف ودون عنف ولا داعي له وأن ننشئ إدارة من المرونة بحيث نستطيع أن تنطبق على خصائص القبائل المختلفة مع حفاظها على كونها إدارة واحدة"
إن التركيز على القبيلة ليس سوى حديث يهدف أساسا إلى إظهار الطابع التقليدي و** لمجتمع "قابل للرسالة التي تكلفت فرنسا بنشرها في المغرب.
لقد كان على الفرنسيين تجنب أسلوب التدخل العسكري المباشر بالمغرب لأنهم لم ** من كلفهم ذلك من حيث *********في تجربتهم مع الجارة الجزائر وفي هذا الإطار بالذات تأتي هذه القولة المشهورة لأحد منظري ***التغلغل الاستعماري بالمغرب ألفرد لرشاتوليي في إحدى تقاريره الموجهة لمسؤولي الإدارة الاستعمارية **يجب أن يكون لنا عن
0 التعليقات:
إرسال تعليق